باب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الْجَنَائِزَ
الشرح:
قوله (باب اتباع النساء الجنازة) قال الزين بن المنير: فصل المصنف بين هذه الترجمة وبين فضل اتباع الجنائز بتراجم كثيرة تشعر بالتفرقة بين النساء.
والرجال، وأن الفضل الثابت في ذلك يختص بالرجال دون النساء لأن النهي يقتضي التحريم أو الكراهة، والفضل يدل على الاستحباب، ولا يجتمعان.
وأطلق الحكم هنا لما يتطرق إليه من الاحتمال، ومن ثم اختلف العلماء في ذلك.
ولا يخفى أن محل النزاع إنما هو حيث تؤمن المفسدة.
الحديث:
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا
الشرح:
قوله: (حدثنا سفيان) هو الثوري وأم الهذيل هي حفصة بنت سيرين.
قوله: (نهينا) تقدم في الحيض من رواية هشام بن حسان عن حفصة عنها بلفظ " كنا نهينا عن اتباع الجنائز " ورواه يزيد بن أبي حكيم عن الثوري بإسناد هذا الباب بلفظ " نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه الإسماعيلي وفيه رد على من قال: لا حجة في هذا الحديث لأنه لم يسم الناهي فيه، لما رواه الشيخان وغيرهما أن كل ما ورد بهذه الصيغة كان مرفوعا وهو الأصح عند غيرهما من المحدثين، ويؤيد رواية الإسماعيلي ما رواه الطبراني من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت " لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع النساء في بيت ثم بعث إلينا عمر فقال: إني رسول رسول الله إليكن، بعثني إليكن لأبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا " الحديث، وفي آخره " وأمرنا أن نخرج في العيد العواتق، ونهانا أن نخرج في جنازة " وهذا يدل على أن رواية أم عطية الأولى من مرسل الصحابة.
قوله: (ولم يعزم علينا) أي ولم يؤكد علينا في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم.
وقال القرطبي: ظاهر سياق أم عطية أن النهي نهي تنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم، ومال مالك إلى الجواز وهو قول أهل المدينة.
ويدل على الجواز ما رواه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها فقال " دعها يا عمر " الحديث.
وأخرجه ابن ماجه والنسائي من هذا الوجه، ومن طريق أخرى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سلمة بن الأزرق عن أبي هريرة ورجاله ثقات.
وقال المهلب: في حديث أم عطية دلالة على أن النهي من الشارع على درجات.
وقال الداودي: قولها " نهينا عن اتباع الجنائز " أي إلى أن نصل إلى القبور، وقوله "ولم يعزم علينا " أي أن لا نأتي أهل الميت فنعزيهم ونترحم على ميتهم من غير أن نتبع جنازته انتهى.
وفي أخذ هذا التفصيل من هذا السياق نظر، نعم هو في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة مقبلة فقال: من أين جئت؟ فقالت: رحمت على أهل هذا الميت ميتهم.
فقال: لعلك بلغت معهم الكدى؟ قالت: لا " الحديث أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما.
فأنكر عليها بلوغ الكدى، وهو بالضم وتخفيف الدال المقصورة وهي المقادير، ولم ينكر عليها التعزية.
وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون المراد بقولها " ولم يعزم علينا " أي كما عزم على الرجال بترغيبهم في اتباعها بحصول القيراط ونحو ذلك، والأول أظهر.
والله أعلم.
*3*باب إِحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا
الشرح:
قوله (باب إحداد المرأة على غير زوجها) قال ابن بطال: الإحداد بالمهملة امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطيب وغيرهما وكل ما كان من دواعي الجماع.
وأباح الشارع للمرأة أن تحد على غير زوجها ثلاثة أيام لما يغلب من لوعة الحزن ويهجم من ألم الوجد، وليس ذلك واجبا لاتفاقهم على أن الزوج لو طالبها بالجماع لم يحل لها منعه من تلك الحال، وسيأتي قي كتاب الطلاق بقية الكلام على مباحث الإحداد.
وقوله في الترجمة " على غير زوجها " يعم كل ميت غير الزوج سواء كان قريبا أو أجنبيا، ودلالة الحديث له ظاهرة، ولم يقيده في الترجمة بالموت لأنه يختص به عرفا، ولم يبين حكمه لأن الخبر دل على عدم التحريم في الثلاث وأقل ما يقتضيه إثبات المشروعية.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ تُوُفِّيَ ابْنٌ لِأُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وَقَالَتْ نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلَّا بِزَوْجٍ
الشرح:
قوله: (فلما كان يوم الثالث) كذا للأكثر وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وللمستملي " اليوم الثالث".
قوله (دعت بصفرة) سيأتي الكلام عليها قريبا.
قوله: (نهينا) رواه أيوب عن ابن سيرين بلفظ " أمرنا بأن لا نحد على هالك فوق ثلاث " الحديث أخرجه عبد الرزاق، وللطبراني من طريق قتادة عن ابن سيرين عن أم عطية قالت " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " فذكره معناه.
قوله: (أن نحد) بضم أوله من الرباعي، ولم يعرف الأصمعي غيره، وحكى غيره فتح أوله وضم ثانيه من الثلاثي يقال حدت المرأة وأحدت بمعنى.
قوله: (إلا بزوج) وفي رواية الكشميهني " إلا لزوج " باللام، ووقع في العدد من طريقه بلفظ " إلا على زوج " والكل بمعنى السببية.
الحديث:
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ الشَّأْمِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِصُفْرَةٍ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
الشرح:
قوله (عن زينب بنت أبي سلمة) هي ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح في العدد بالإخبار بينها وبين حمد بن نافع.
قوله: (نعي) بفتح النون وسكون المهملة وتخفيف الياء - وكسر المهملة وتشديد الياء - هو الخبر بموت الشخص، وأبو سفيان هو ابن حرب بن أمية والد معاوية.
قوله (دعت أم حبيبة) هي بنت أبي سفيان المذكور.
وفي قوله " من الشام " نظر، لأن أبا سفيان مات بالمدينة بلا خلاف بين أهل العلم بالأخبار، والجمهور على أنه مات سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييده بذلك إلا في رواية سفيان بن عيينة هذه وأظنها وهما، وكنت أظن أنه حذف منه لفظ " ابن " لأن الذي جاء نعيه من الشام وأم حبيبة في الحياة هو أخوها يزيد بن أبي سفيان الذي كان أميرا على الشام، لكن رواه المصنف في العدد من طريق مالك ومن طريق سفيان الثوري كلاهما عن عبد الله بن بكر بن حزم عن حميد بن نافع بلفظ " حين توفي عنها أبوها أبو سفيان بن حرب " فظهر أنه لم يسقط منه شيء، ولم يقل فيه واحد منهما من الشام، وكذا أخرجه ابن سعد في ترجمة أم حبيبة من طريق صفية بنت أبي عبيد عنها.
ثم وجدت الحديث في مسند ابن أبي شيبة قال " حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن حميد بن نافع - ولفظه - جاء نعي أخي أم حبيبة أو حميم لها فدعت بصفرة فلطخت به ذراعيها " وكذا رواه الدارمي عن هاشم بن القاسم عن شعبة لكن بلفظ " إن أخا لأم حبيبة مات أو حميما لها " ورواه أحمد عن حجاج ومحمد بن جعفر جميعا عن شعبة بلفظ " أن حميما لها مات " من غير تردد، وإطلاق الحميم على الأخ أقرب من إطلاقه على الأب، فقوي الظن عند هذا أن تكون القصة تعددت لزينب مع أم حبيبة عند وفاة أخيها يزيد ثم عند وفاة أبيها أبي سفيان لا مانع من ذلك.
والله أعلم.
قوله: (بصفرة) في رواية مالك المذكورة " بطيب فيه صفرة خلوق " وزاد فيه " فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها " أي بعارضي نفسها.
الحديث:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ بِهِ ثُمَّ قَالَتْ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
الشرح:
قوله: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس ابن أخت مالك.
وساق الحديث هنا من طريق مالك مختصرا، وأورده مطولا من طريقه في العدد كما سيأتي.
قوله (ثم دخلت) هو مقول زينب بنت أم سلمة، وهو مصرح به في الرواية التي في العدد وظاهره أن هذه القصة وقعت بعد قصة أم حبيبة، ولا يصح ذلك إلا إن قلنا بالتعدد، ويكون ذلك عقب وفاة يزيد بن أبي سفيان لأن وفاته سنة ثمان عشرة أو تسع عشرة، ولا يصح أن يكون ذلك عند وفاة أبيه لأن زينب بنت جحش ماتت قبل أبي سفيان بأكثر من عشر سنين على الصحيح المشهور عند أهل العلم بالأخبار، فيحمل على أنها لم ترد ترتيب الوقائع وإنما أرادت ترتيب الأخبار.
وقد وقع في رواية أبي داود بلفظ " ودخلت " وذلك لا يقتضي الترتيب والله أعلم.
قوله: (حين توفي أخوها) لم أتحقق من المراد به، لأن لزينب ثلاثة إخوة: عبد الله وعبد يغير إضافة وعبيد الله بالتصغير، فأما الكبير فاستشهد بأحد وكانت زينب إذ ذاك صغيرة جدا لأن أباها أبا سلمة مات بعد بدر وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمها أم سلمة وهي صغيرة ترضع كما سيأتي في الرضاع أن أمها حلت من عدتها من أبي سلمة بوضع زينب هذه، فانتفى أن يكون هو المراد هنا، وإن كان وقع في كثير من الموطآت بلفظ " حين توفي أخوها عبد الله " كما أخرجه الدارقطني من طريق ابن وهب وغيره عن مالك، وأما عبد بغير إضافة فيعرفه بأبي حميد وكان شاعرا أعمى وعاش إلى خلافة عمر، وقد جزم إسحاق وغيره من أهل العلم بالأخبار بأنه مات بعد أخته زينب بسنة، وروى ابن سعد في ترجمتها في الطبقات من وجهين أن أبا حميد المذكور حضر جنازة زينب مع عمر وحكي عنه مراجعة له بسببها، وإن كان في إسنادهما الواقدي لكن يستشهد به في مثل هذا، فانتفى أن كون هذا الأخير المراد، وأما عبيد الله المصغر فأسلم قديما وهاجر بزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة ثم تنصر هناك ومات فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعده أم حبيبة، فهذا يحتمل أن يكون هو المراد لأن زينب بنت أبي سلمة عندما جاء الخبر بوفاة عبيد الله كانت في سن من يضبط، ولا مانع أن يحزن المرء على قريبه الكافر ولا سيما إذا تذكر سوء مصيره.
ولعل الرواية التي في الموطأ " حين توفي أخوها عبد الله " كانت عبيد الله بالتصغير فلم يضبطها الكاتب والله أعلم.
ويعكر على هذا قول من قال إن عبيد الله مات بأرض الحبشة فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم حبيبة، فإن ظاهرها أن تزوجها كان بعد موت عبيد الله، وتزويجها وقع وهي بأرض الحبشة وقبل أن تسمع النهي، وأيضا ففي السياق " ثم دخلت على زينب " بعد قولها دخلت على أم حبيبة، وهو ظاهر في أن ذلك كان بعد موت قريب زينب بنت جحش المذكور وهو بعد مجيء أم حبيبة من الحبشة بمدة طويلة، فإن لم يكن هذا الظن هو الواقع احتمل أن يكون أخا لزينب بنت جحش من أمها أو من الرضاعة، أو يرجح ما حكاه ابن عبد البر وغيره من أن زينب بنت أبى سلمة ولدت بأرض الحبشة فإن مقتضى ذلك أن يكون لها عند وفاة عبد الله بن جحش أربع سنين، وما مثلها يضبط في مثلها والله أعلم.
قوله: (فمست به) أي شيئا من جسدها، وسيأتي في الطريق التي في العدد بلفظ " فمست منه " وسيأتي فيه لزينب حديث آخر عن أمها أم سلمة في الإحداد أيضا، وسيأتي الكلام على الأحاديث الثلاثة مستوفي إن شاء الله تعالى.
*3*باب زِيَارَةِ الْقُبُورِ
الشرح:
قوله: (باب زيارة القبور) أي مشروعيتها وكأنه لم يصرح بالحكم لما فيه من الخلاف كما سيأتي، وكأن المصنف لم يثبت على شرطه الأحاديث المصرحة بالجواز، وقد أخرجه مسلم من حديث بريدة وفيه نسخ النهي عن ذلك ولفظه " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها " وزاد أبو داود والنسائي من حديث أنس " فإنها تذكر الآخرة " وللحاكم من حديثه فيه " وترق القلب وتدمع العين، فلا تقولوا هجرا " أي كلاما فاحشا، وهو بضم الهاء وسكون الجيم وله من حديث ابن مسعود " فإنها تزهد في الدنيا " ولمسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا " زوروا القبور فإنها تذكر الموت " قال النووي تبعا للعبدري والحازمي وغيرهما: اتفقوا على أن زيارة القبور للرجال جائزة.
كذا أطلقوا، وفيه نظر لأن ابن أبي شيبة وغيره روى عن ابن سيرين وإبراهيم النخعي والشعبي الكراهة مطلقا حتى قال الشعبي: لولا نهي النبي صلى الله عليه وسلم لزرت قبر ابنتي.
فلعل من أطلق أراد بالاتفاق ما استقر عليه الأمر بعد هؤلاء، وكأن هؤلاء لم يبلغهم الناسخ والله أعلم.
ومقابل هذا قول ابن حزم: إن زيارة القبور واجبة ولو مرة واحدة في العمر لورود الأمر به.
واختلف في النساء فقيل: دخلن في عموم الإذن وهو قول الأكثر، ومحله ما إذا أمنت الفتنة ويؤيد الجواز حديث الباب، وموضع الدلالة منه أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة.
وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة فروى الحاكم من طريق ابن أبي مليكة أنه رآها زارت قبر أخيها عبد الرحمن " فقيل لها: أليس قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قالت نعم، كان نهي ثم أمر بزيارتها " وقيل الإذن خاص بالرجال ولا يجوز للنساء زيارة القبور، وبه جزم الشيخ أبو إسحاق في " المهذب " واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو الذي تقدمت الإشارة إليه في " باب اتباع النساء الجنائز " وبحديث " لعن الله زوارات القبور " أخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة، وله شاهد من حديث ابن عباس ومن حديث حسان بن ثابت.
واختلف من قال بالكراهة في حقهن هل هي كراهة تحريم أو تنزيه؟ قال القرطبي: هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك، فقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء.
الحديث:
حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى
الشرح:
قوله: (بامرأة) لم أقف على اسمها ولا اسم صاحب القبر.
وفي رواية لمسلم ما يشعر بأنه ولدها ولفظه " تبكي على صبي لها " وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبد الرزاق ولفظه " قد أصيبت بولدها " وسيأتي في أوائل كتاب الأحكام من طريق أخرى عن شعبة عن ثابت " أن أنسا قال لامرأة من أهله: تعرفين فلانة؟ قالت: نعم.
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مر بها " فذكر هذا الحديث.
قوله: (فقال اتقي الله) في رواية أبي نعيم في المستخرج " فقال يا أمة الله اتقي الله " قال القرطبي: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى.
قلت: يؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور " فسمع منها ما يكره فوقف عليها " وقال الطيبي: قوله " اتقي الله " توطئة لقوله " واصبري " كأنه قيل لها خافي غضب الله إن لم تصبري ولا تجزعي ليحصل لك الثواب.
قوله: (إليك عني) هو من أسماء الأفعال، ومعناها تنح وابعد.
قوله: (لم تصب بمصيبتي) سيأتي في الأحكام من وجه آخر عن شعبة بلفظ " فإنك خلو من مصيبتي " وهو بكسر المعجمة وسكون اللام، ولمسلم " ما تبالي بمصيبتي " ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة أنها قالت " يا عبد الله إني أنا الحرى الثكلي، ولو كنت مصابا عذرتني".
قوله: (ولم تعرفه) جملة حالية أي خاطبته بذلك ولم تعرف أنه رسول الله.
قوله: (فقيل لها) في رواية الأحكام " فمر بها رجل فقال لها: إنه رسول الله، فقالت: ما عرفته " وفي رواية أبي يعلى المذكورة " قال فهل تعرفينه؟ قالت: لا " وللطبراني في الأوسط من طريق عطية عن أنس أن الذي سألها هو الفضل بن العباس، وزاد مسلم في رواية له " فأخذها مثل الموت " أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه صلى الله عليه وسلم خجلا منه ومهابة.
قوله: (فلم تجد عنده بوابين) في رواية الأحكام " بوابا " بالإفراد قال الزين بن المنير: فائدة هذه الجملة من هذا الخبر بيان عذر هذه المرأة في كونها لم تعرفه، وذلك أنه كان من شأنه أن لا يتخذ بوابا مع قدرته على ذلك تواضعا، وكان من شأنه أنه لا يستتبع الناس وراءه إذا مشى كما جرت عادة الملوك والأكابر، فلذلك اشتبه على المرأة فلم تعرفه مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء.
وقال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها إنه النبي صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفا وهيبة في نفسها فتصورت أنه مثل الملوك له حاجب وبواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته.
قوله: (فقالت: لم أعرفك) في حديث أبي هريرة " فقالت والله ما عرفتك".
قوله: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) في رواية الأحكام " عند أول صدمة " ونحوه لمسلم، والمعني إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله فاستعير للمصيبة الواردة على القلب، قال الخطابي: المعنى أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على الأيام يسلو.
وحكى الخطابي عن غيره أن المرء لا يؤجر على المصيبة لأنها ليست من صنعه، وإنما يؤجر على حسن تثبته وجميل صبره.
وقال ابن بطال: أراد أن لا يجتمع عليها مصيبة الهلاك وفقد الأجر.
وقال الطيبي: صدر هذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم عن قولها لم أعرفك على أسلوب الحكيم كأنه قال لها: دعي الاعتذار فإني لا أغضب لغير الله وانظري لنفسك.
وقال الزين بن المنير:.
فائدة جواب المرأة بذلك أنها لما جاءت طائعة لما أمرها به من التقوى والصبر معتذرة عن قولها الصادر عن الحزن بين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال، فهو الذي يترتب عليه الثواب انتهى.
ويؤيده أن في رواية أبي هريرة المذكورة " فقالت أنا أصبر، أنا أصبر " وفي مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور " فقال اذهبي إليك، فإن الصبر عند الصدمة الأولى " وزاد عبد الرزاق فيه من مرسل الحسن " والعبرة لا يملكها ابن آدم".
وذكر هذا الحديث في زيارة القبور مع احتمال أن تكون المرأة المذكورة تأخرت بعد الدفن عند القبر والزيارة إنما تطلق على من أنشأ إلى القبر قصدا من جهة استواء الحكم في حقها حيث أمرها بالتقوى والصبر لما رأى من جزعها ولم ينكر عليها الخروج من بيتها فدل على أنه جائز، وهو أعم من أن يكون خروجها لتشييع ميتها فأقامت عند القبر بعد الدفن أو أنشأت قصد زيارته بالخروج بسبب الميت.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من التواضع والرفق بالجاهل، ومسامحة المصاب وقبول اعتذاره، وملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيه أن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس، وأن من أمر بمعروف ينبغي له أن يقبل ولو لم يعرف الآمر.
وفيه أن الجزع من المنهيات لأمره لها بالتقوى مقرونا بالصبر.
وفيه الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة ونشر الموعظة، وأن المواجهة بالخطاب إذا لم تصادف المنوي لا أثر لها.
وبني عليه بعضهم ما إذا قال يا هند أنت طالق فصادف عمرة أن عمرة لا تطلق.
واستدل به على جواز زيارة القبور سواء كان الزائر رجلا أو امرأة كما تقدم، وسواء كان المزور مسلما أو كافرا، لعدم الاستفصال في ذلك.
قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور.
وقال صاحب الحاوي: لا تجوز زيارة قبر الكافر، وهو غلط انتهى.
وحجة الماوردي قوله تعالى (ولا تقم على قبره) ، وفي الاستدلال به نظر لا يخفى.
(تنبيه) : قال الزين بن المنير: قدم المصنف ترجمة زيارة القبور على غيرها من أحكام تشييع الجنازة وما بعد ذلك مما يتقدم الزيارة لأن الزيارة يتكرر وقوعها فجعلها أصلا ومفتاحا لتلك الأحكام انتهى ملخصا.
وأشار أيضا إلى أن مناسبة ترجمة زيارة القبور تناسب اتباع النساء الجنائز، فكأنه أراد حصر الأحكام المتعلقة بخروج النساء متوالية.
والله أعلم.