وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ
الشرح:
قوله: (باب إذا لم يطق) أي الإنسان الصلاة في حال القعود صلى على جنبه.
قوله: (وقال عطاء إذا لم يقدر) في رواية الكشميهني " إن لم يقدر الخ " وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء بمعناه، ومطابقته للترجمة من جهة أن الجامع بينهما أن العاجز عن أداء فرض ينتقل إلى فرض دونه ولا يترك، وهو حجة على من زعم أن العاجز عن القعود في الصلاة تسقط عنه الصلاة، وقد حكاه الغزالي عن أبي حنيفة، وتعقب بأنه لا يوجد في كتب الحنفية.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ الْمُكْتِبُ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ
الشرح:
قوله: (عن عبد الله) هو ابن المبارك، وسقط ذكره من رواية أبي زيد المروزي ولا بد منه فإن عبدان لم يسمع من إبراهيم بن طهمان، والحسين المكتب هو ابن ذكوان المعلم الذي سبق في الباب قبله، قال الترمذي: لا نعلم أحدا روى هذا عن حسين إلا إبراهيم، وروى أبو أسامة وعيسى بن يونس وغيرهما عن حسين على اللفظ السابق، ا ه.
ولا يؤخذ من ذلك تضعيف رواية إبراهيم كما فهمه ابن العربي تبعا لابن بطال ورد على الترمذي بأن رواية إبراهيم توافق الأصول ورواية غيرهما تخالفها فتكون رواية إبراهيم أرجح، لأن ذلك راجع إلى الترجيح من حيث المعنى لا من حيث الإسناد، وإلا فاتفاق الأكثر على شيء يقتضي أن رواية من خالفهم تكون شاذة، والحق أن الروايتين صحيحتان كما صنع البخاري، وكل منهما مشتملة على حكم غير الحكم الذي اشتملت عليه الأخرى والله أعلم.
قوله: (عن الصلاة) المراد عن صلاة المريض، بدليل قوله في أوله " كانت بي بواسير " وفي رواية وكيع عن إبراهيم بن طهمان " سألت عن صلاة المريض " أخرجه الترمذي وغيره.
(تنبيه) : قال الخطابي لعل هذا الكلام كان جواب فتيا استفتاها عمران، وإلا فليست علة البواسير بمانعة من القيام في الصلاة على ما فيها من الأذى ا ه.
ولا مانع من أن يسأل عن حكم ما لم يعلمه لاحتمال أن يحتاج إليه فيما بعد.
قوله: (فإن لم تستطع) استدل به من قال لا ينتقل المريض إلى القعود إلا بعد عدم القدرة على القيام، وقد حكاه عياض عن الشافعي، وعن مالك وأحمد وإسحاق لا يشترط العدم بل وجود المشقة، والمعروف عند الشافعية أن المراد بنفي الاستطاعة وجود المشقة الشديدة بالقيام، أو خوف زيارة المرض، أو الهلاك، ولا يكتفى بأدنى مشقة.
ومن المشقة الشديدة دوران الرأس في حق راكب السفينة وخوف الغرق لو صلى قائما فيها، وهل يعد في عدم الاستطاعة من كان كامنا في الجهاد ولو صلى قائما لرآه العدو فتجوز له الصلاة قاعدا أو لا؟ فيه وجهان للشافعية الأصح الجواز، لكن يقضى صلى الله عليه وسلم لكونه عذرا نادرا.
واستدل به على تساوي عدم الاستطاعة في القيام والقعود في الانتقال خلافا لمن فرق بينهما كإمام الحرمين، ويدل للجمهور أيضا حديث ابن عباس عند الطبراني بلفظ " يصلي قائما، فإن نالته مشقة فجالسا، فإن نالته مشقة صلى نائما " الحديث، فاعتبر في الحالين وجود المشقة ولم يفرق.
قوله: (فعلى جنب) في حديث علي عند الدار قطني على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه " وهو حجة للجمهور في الانتقال من القعود إلى الصلاة على الجنب، وعن الحنفية وبعض الشافعية يستلقي على ظهره ويجعل رجليه إلى القبلة.
ووقع في حديث علي صلى الله عليه وسلم أن حالة الاستلقاء تكون عند العجز عن حالة الاضطجاع، واستدل به من قال لا ينتقل المريض بعد عجزه عن الاستلقاء إلى حالة أخرى كالإشارة بالرأس ثم الإيماء بالطرف ثم إجراء القرآن والذكر على اللسان ثم على القلب لكون جميع ذلك لم يذكر في الحديث، وهو قول الحنفية والمالكية وبعض الشافعية.
وقال بعض الشافعية بالترتيب المذكور وجعلوا مناط الصلاة حصول العقل فحيث كان حاضر العقل لا يسقط عند التكليف بها فيأتي بما يستطيعه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " هكذا استدل به الغزالي، وتعقبه الرافعي بأن الخبر أمر بالإتيان بما يشتمل عليه المأمور، والقعود لا يشتمل على القيام وكذا ما بعده إلى آخر ما ذكر، وأجاب عنه ابن الصلاح بأنا لا نقول إن الآتي بالقعود آت بما استطاعه من القيام مثلا، ولكنا نقول: يكون آتيا بما استطاعه من الصلاة، لأن المذكورات أنواع لجنس الصلاة بعضها أدنى من بعض، فإذا عجز عن الأعلى وأتى بالأدنى كان آتيا بما استطاع من الصلاة.
وتعقب بأن كون هذه المذكورات من الصلاة فرع لمشروعية الصلاة بها وهو محل النزاع.
(فائدة) : قال ابن المنير في الحاشية: اتفق لبعض شيوخنا فرع غريب في النقل كثير في الوقوع، وهو أن يعجز المريض عن التذكر ويقدر على الفعل فألهمه الله أن يتخذ من يلقنه فكان يقول: أحرم بالصلاة، قل الله أكبر، اقرأ الفاتحة، قل الله أكبر للركوع إلى آخر الصلاة، يلقنه ذلك تلقينا وهو يفعل جميع ما يقول له بالنطق أو بالإيماء رحمه الله.
*3*
باب إِذَا صَلَّى قَاعِدًا ثُمَّ صَحَّ أَوْ وَجَدَ خِفَّةً تَمَّمَ مَا بَقِيَ
وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ شَاءَ الْمَرِيضُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا وَرَكْعَتَيْنِ قَاعِدًا
الشرح:
قوله: (باب إذا صلى قاعدا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي) في رواية الكشميهني " أتم ما بقي " أي لا يستأنف بل يبني عليه إتيانا بالوجه الأتم من القيام ونحوه، وفي هذه الترجمة إشارة إلى الرد على من قال: من افتتح الفريضة قاعدا لعجزه عن القيام ثم أطلق القيام وجب عليه الاستئناف، وهو محكي عن محمد ابن الحسن، وخفي ذلك على ابن المنير حتى قال: أراد البخاري بهذه الترجمة رفع خيال من تخيل أن الصلاة لا تتبعض فيجب الاستئناف على من صلى قاعدا ثم استطاع القيام.
قوله: (وقال الحسن إن شاء المريض) أي في الفريضة (صلى ركعتين قائما) وهذا الأثر وصله ابن شيبة بمعناه، ووصله الترمذي أيضا بلفظ آخر، وتعقبه ابن التين بأنه لا وجه للمشيئة هنا لأن القيام لا يسقط عمن قدر عليه، إلا إن كان يريد بقوله " إن شاء " أي بكلفة كثيرة ا ه.
ويظهر أن مراده أن من افتتح الصلاة قاعدا ثم استطاع القيام كان له إتمامها قائما إن شاء بأن يبنى على ما صلى، وإن شاء استأنفها، فاقتضى ذلك جواز البناء وهو قول الجمهور.
ثم أورد المصنف حديث عائشة من رواية مالك بإسنادين له أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي قاعدا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثلاثين أو أربعين آية قائما ثم ركع.
وزاد في الطريق الثانية منهما أنه كان يفعل ذلك في الركعة الثانية، وفي الأولى منهما تقييد ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الليل قاعدا إلا بعد أن أسن، وسيأتي في أثناء صلاة الليل من هذا الوجه بلفظ حتى إذا كبر.
وفي رواية عثمان بن أبي سليمان عن أبي سلمة عن عائشة " لم يمت حتى كان أكثر صلاته جالسا"، وفي حديث حفصة " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في سبحته جالسا حتى إذا كان قبل موته بعام وكان يصلي في سبحته جالسا " الحديث أخرجهما مسلم، قال ابن التين: قيدت عائشة ذلك بصلاة الليل لتخرج الفريضة، وبقولها " حتى أسن " لنعلم أنه إنما فعل ذلك إبقاء على نفسه ليستديم الصلاة، وأفادت أنه كان يديم القيام وأنه كان لا يجلس عما يطيقه من ذلك.
وقال ابن بطال: هذه الترجمة تتعلق بالفريضة، وحديث عائشة يتعلق بالنافلة.
ووجه استنباطه أنه لما جاز في النافلة القعود لغير علة مانعة من القيام وكان عليه الصلاة والسلام يقوم فيها قبل الركوع كانت الفريضة التي لا يجوز القعود فيها إلا بعدم القدرة على القيام أولى ا ه.
والذي يظهر لي أن الترجمة ليست مختصة بالفريضة، بل قوله " ثم صح " يتعلق بالفريضة.
وقوله "أو وجد خفة " يتعلق بالنافلة، وهذا الشق مطابق للحديث، ويؤخذ ما يتعلق بالشق الآخر بالقياس عليه، والجامع بينهما جواز إيقاع بعض الصلاة قاعدا وبعضها قائما، ودل حديث عائشة على جواز القعود في أثناء صلاة النافلة لمن افتتحها قائما كما يباح له أن يفتتحها قاعدا ثم يقوم، إذ لا فرق بين الحالتين، ولا سيما مع وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية خلافا لمن أبى ذلك، واستدل به على أن من افتتح صلاته مضطجعا ثم استطاع الجلوس أو القيام أتمها على ما أدت إليه حاله.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَأَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ يَرْكَعُ ثُمَّ سَجَدَ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ فَإِذَا قَضَى صَلَاتَهُ نَظَرَ فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ
الشرح:
قوله: (فإذا بقي من قراءته) فيه إشارة إلى أن الذي كان يقرؤه قبل أن يقوم أكثر، لأن البقية تطلق في الغالب على الأقل.
وفي هذا الحديث أنه لا يشترط لمن افتتح النافلة قاعدا أن يركع قاعدا، أو قائما أن يركع قائما وسيأتي البحث في ذلك في " باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل " من أبواب التهجد.
قوله: (فإذا قضى صلاته نظر الخ) يأتي الكلام عليه في أبواب التطوع في الكلام على ركعتي الفجر إن شاء الله تعالى.
(خاتمة) : اشتملت أبواب التقصير وما معه من الأحاديث المرفوعة على اثنين وخمسين حديثا، المعلق منها ستة عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وثلاثون والبقية موصولة، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عباس في قدر الإقامة بمكة، وحديث جابر في التطوع راكبا إلى غير القبلة، وحديث أنس في الجمع بين المغرب والعشاء، وحديث عمران في صلاة القاعد.
وفيه من الآثار الموقوفة على الصحابة فمن بعدهم ستة آثار والله أعلم.