الشرح:
قوله: (باب هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء) ؟ قال ابن رشيد: ليس في حديثي الباب تنصيص على الأذان، لكن في حديث ابن عمر منهما " يقيم المغرب فيصليها " ولم يرد بالإقامة نفس الأذان وإنما أراد يقيم للمغرب، فعلى هذا فكأن مراده بالترجمة: هل يؤذن أو يقتصر على الإقامة، وجعل حديث أنس مفسرا بحديث ابن عمر، لأن في حديث ابن عمر حكما زائدا ا ه.
ولعل المصنف أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق حديث ابن عمر، ففي الدار قطني من طريق عمر بن محمد بن زيد عن نافع عن ابن عمر في قصة جمعه المغرب والعشاء " فنزل فأقام الصلاة، وكان لا ينادي بشيء من الصلاة في السفر، فقام فجمع بين المغرب والعشاء ثم رفع " الحديث.
وقال الكرماني: لعل الزاوي لما أطلق لفظ الصلاة استفيد منه أن المراد بها التامة بأركانها وشرائطها وسننها ومن جملتها الأذان والإقامة، وسبقه ابن بطال إلى نحو ذلك.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ قَالَ سَالِمٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ وَيُقِيمُ الْمَغْرِبَ فَيُصَلِّيهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ الْعِشَاءَ فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَلَا يُسَبِّحُ بَيْنَهُمَا بِرَكْعَةٍ وَلَا بَعْدَ الْعِشَاءِ بِسَجْدَةٍ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ
الشرح:
قوله: (يؤخر صلاة المغرب) لم يعين غاية التأخير، وبينه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق.
وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع " فأخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هوى من الليل " وللمصنف في الجهاد من طريق أسلم مولى عمر عن ابن عمر في هذه القصة " حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعشاء جمعا بينهما " ولأبي داود من طريق ربيعة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في هذه القصة " فصار حتى غاب الشفق وتصوبت النجوم نزل فصلى الصلاتين جمعا " وجاءت عن ابن عمر روايات أخرى " أنه صلى المغرب في آخر الشفق، ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق، فصلى العشاء " أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر عن نافع، ولا تعارض بينه وبين ما سبق لأنه كان في واقعة أخرى.
قوله: (ثم قلما يلبث حتى يقيم العشاء) فيه إثبات للبث قليل، وذلك نحو ما وقع في الجمع بمزدلفة من إناخة الرواحل، ويدل عليه ما تقدم من الطرق التي فيها جمع بينهما وصلاهما جميعا، وفيه حجة على من حمل أحاديث الجمع على الجمع الصوري، قال إمام الحرمين: ثبت في الجمع أحاديث نصوص لا يتطرق إليها تأويل، ودليله من حيث المعنى الاستنباط من الجمع بعرفة ومزدلفة، فإن سببه احتياج الحاج إليه لاشتغالهم بمناسكهم، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار ولم تتقيد الرخص كالقصر والفطر بالنسك، إلى أن قال: ولا يخفى على منصف أن الجمع أرفق من القصر، فإن القائم إلى الصلاة لا يشق عليه ركعتان يضمهما إلى ركعتيه، ورفق الجمع واضح لمشقة النزول على المسافر، واحتج به من قال باختصاص الجمع لمن جد به السير، وسيأتي ذلك في الباب الذي بعده.
الحديث:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا حَرْبٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ يَعْنِي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ
الشرح:
قوله: (حدثنا إسحاق) هو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم في المستخرج، ومال أبو علي الجياني إلى أنه إسحاق بن منصور، وقد تقدم الكلام على حديث أنس في الباب الذي قبله.
*3*
باب يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ
فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الشرح:
قوله: (باب يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس) في هذا إشارة إلى أن جمع التأخير عند المصنف يختص بمن ارتحل قبل أن يدخل وقت الظهر.
قوله: (فيه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم) يشير إلى حديثه الماضي قبل باب، فإنه قيد الجمع فيه بما إذا كان على ظهر السير، ولا قائل بأنه يصليهما وهو راكب فتعين أن المراد به جمع التأخير، ويؤيده رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده من طريق مقسم عن ابن عباس ففيها التصريح بذلك وإن كان في إسناده مقال، لكنه يصلح للمتابعة.
الحديث:
حَدَّثَنَا حَسَّانُ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ
الشرح:
قوله: (حدثنا حسان الواسطي) هو ابن عبد الله بن سهل الكندي المصري، كان أبوه واسطيا فقدم مصر فولد بها حسان المذكور واستمر بها إلى أن مات.قوله: (حدثنا المفضل بن فضالة) بفتح الفاء بعدها معجمة خفيفة، من ثقات المصريين.
وفي الرواة حسان الواسطي آخر لكنه حسان بن حسان يروي عن شعبة وغيره ضعفه الدار قطني، ووهم بعض الناس فزعم أنه شيخ البخاري هنا وليس كذلك فإنه ليست له رواية عن المصريين.
قوله: (تزيغ) بزاي ومعجمة أي تميل، وزاغت مالت، وذلك إذا قام الفيء.
قوله: (ثم يجمع بينهما) أي في وقت العصر.
وفي رواية قتيبة عن المفضل في الباب الذي بعده " ثم نزل فجمع بينهما " ولمسلم من رواية جابر بن إسماعيل عن عقيل " يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق"، وله من رواية شبابة عن عقيل: " حتى يدخل أول وقت العصر، ثم يجمع بينهما".
قوله: (إذا زاغت) أي قبل أن يرتحل كما سيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده.
*3*
باب إِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ مَا زَاغَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ
الشرح:
قوله: (باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب) أورد فيه حديث أنس المذكور قبله وفيه " فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب " كذا فيه الظهر فقط، وهو المحفوظ عن عقيل في الكتب المشهورة، ومقتضاه أنه كان لا يجمع ين الصلاتين إلا في وقت الثانية منهما، وبه احتج من أبي جمع التقديم كما تقدم، ولكن روى إسحاق بن راهويه هذا الحديث عن شبابة فقال " كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل " أخرجه الإسماعيلي، وأعل بتفرد إسحاق بذلك عن شبابة ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق، وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان.
وقد وقع نظيره في " الأربعين " للحاكم قال " حدثنا محمد بن يعقوب هو الأصم حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني هو أحد شيوخ مسلم قال حدثنا محمد بن عبد الله الواسطي " فذكر الحديث وفيه " فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب " قال الحافظ صلاح الدين العلائي: هكذا وجدته بعد التتبع في نسخ كثيرة من الأربعين بزيادة العصر، وسند هذه الزيادة جيد.
انتهى.
قلت: وهي متابعة قوية لرواية إسحاق بن راهويه إن كانت ثابتة، لكن في ثبوتها نظر، لأن البيهقي أخرج هذا الحديث عن الحاكم بهذا الإسناد مقرونا برواية أبي داود عن قتيبة وقال: إن لفظهما سواء، إلا أن في رواية قتيبة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية حسان " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " والمشهور في جمع التقديم ما أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطويل عن من معاذ بن جبل، وقد أعله جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة عن الليث، وأشار البخاري إلى أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة، حكاه الحاكم في " علوم الحديث"، وله طريق أخرى عن معاذ بن جبل أخرجها أبو داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل، وهشام مختلف فيه وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك والثوري وقرة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقدم، وورد في جمع التقديم حديث آخر عن ابن عباس أخرجه أحمد وذكره أبو داود تعليقا والترمذي في بعض الروايات عنه وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف، لكن له شواهد من طريق حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس لا أعلمه إلا مرفوعا " أنه كان إذا نزل منزلا في السفر فأعجبه أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر ثم يرتحل، فإذا لم يتهيأ له المنزل مد في السير فسار حتى ينزل فيجمع بين الظهر والعصر " أخرجه البيهقي ورجاله ثقات، إلا أنه مشكوك في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف.
وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزوما بوقفه على ابن عباس ولفظه " إذا كنتم سائرين " فذكر نحوه.
وفي حديث أنس استحباب التفرقة في حال الجمع بين ما إذا كان سائرا أو نازلا، وقد استدل به على اختصاص الجمع بمن جد به السير، لكن وقع التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ ولفظه " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة في غزوة تبوك، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جمعا".
قال الشافعي في " الأم".
قوله "دخل ثم خرج " لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلا ومسافرا.
وقال ابن عبد البر: في هذا أوضح دليل على الرد على من قال لا يجمع إلا من جد به السير، وهو قاطع للالتباس.
انتهى.
وحكى عياض أن بعضهم أول قوله " ثم دخل " أي في الطريق مسافرا " ثم خرج " أي عن الطريق للصلاة، ثم استبعده، ولا شك في بعده، وكأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس والله أعلم.
ومن ثم قال الشافعية: ترك الجمع أفضل وعن مالك رواية أنه مكروه، وفي هذه الأحاديث تخصيص لحديث الأوقات التي بينها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وبينها النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حيث قال في آخرها " الوقت ما بين هذين " وقد تقدمت الإشارة إليه في المواقيت (تنبيه) : تقدم الكلام على الجمع بين الصلاتين بعذر المطر أو المرض أو الحاجة في الحضر في المواقيت في " باب وقت الظهر " وفي " باب وقت المغرب".