الشرح:
قوله: (باب الصلاة في كسوف القمر) أورد فيه حديث أبي بكرة من وجهين مختصرا ومطولا، واعترض عليه بأن المختصر ليس فيه ذكر القمر لا بالتنصيص ولا بالاحتمال، والجواب أنه أراد أن يبين أن المختصر بعض الحديث المطول، وأما المطول فيؤخذ المقصود من قوله " وإذا كان ذلك فصلوا " بعد قوله " أن الشمس والقمر " وقد وقع في بعض طرقه ما هو أصرح من ذلك، فعند ابن حبان من طريق نوح بن قيس عن يونس بن عبيد في هذا الحديث " فإذا رأيتم شيئا من ذلك " وعنده في حديث عبد الله ابن عمرو " فإذا انكسف أحدهما " وقد تقدم حديث أبي مسعود بلفظ " كسوف أيهما انكسف " وفي ذلك رد على من قال لا تندب الجماعة في كسوف القمر، وفرق بوجود المشقة في الليل غالبا دون النهار ووقع عند ابن حبان من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف القمر ولفظه من طريق النضر بن شميل عن أشعث بإسناده في هذا الحديث " صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم"، وأخرجه الدار قطني أيضا، وفي هذا رد على من أطلق كابن رشيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل فيه، ومنهم من أول قوله " صلى " أي أمر بالصلاة، جمعا بين الروايتين.
وقال صاحب الهدى: لم ينقل أنه صلى في كسوف القمر في جماعة، لكن حكى ابن حبان في السيرة له " أن القمر خسف في السنة الخامسة فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الكسوف وكانت أول صلاة كسوف في الإسلام"، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور، وقد جزم به مغلطاي في سيرته المختصرة وتبعه شيخنا في نظمها.
(تنبيه) : حكى ابن التين أنه وقع في رواية الأصيلي في حديث أبي بكرة هذا " انكسف القمر " بدل الشمس، وهذا تغيير لا معنى له، وكأنه عسرت عليه مطابقة الحديث للترجمة فظن أن لفظه مغير فغيره هو إلى ما ظنه صوابا وليس كذلك.
*3*
باب الرَّكْعَةُ الْأُولَى فِي الْكُسُوفِ أَطْوَلُ
الشرح:
قوله: (باب الركعة الأولى في الكسوف أطول) كذا وقع هنا للحموي وللكشميهني، ووقع بدله للمستملي " باب صب المرأة على رأسها الماء إذا أطال الإمام القيام في الركعة الأولى " قال ابن رشيد وقع في هذا الموضع تخليط من الرواة، وحديث عائشة المذكور مطابق للترجمة الأولى قطعا، وأما الثانية فحقها أن تذكر في موضع آخر، وكأن المصنف ترجم بها وأخلى بياضا ليذكر لها حديثا أو طريقا كما جرت عادته فلم يحصل غرضه فضم بعض الكتابة إلى بعض فنشأ هذا، والأليق بها حديث أسماء المذكور قبل سبعة أبواب فهو نص فيه.
انتهى.
ويؤيد ما ذكره ما وقع في رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري فإنه ذكر " باب صب المرأة " أولا وقال في الحاشية: ليس فيه حديث، ثم ذكر " باب الركعة الأولى أطول " وأورد فيه حديث عائشة، وكذا صنع الإسماعيلي في مستخرجه.
فعلى هذا فالذي وقع من صنيع شيوخ أبي ذر من اقتصار بعضهم على إحدى الترجمتين ليس بجيد، أما من اقتصر على الأولى وهو المستملي فخطأ محض، إذ لا تعلق لها بحديث عائشة، وأما الآخران فمن حيث أنهما حذفا الترجمة أصلا، وكأنهما استشكلاها فحذفاها، ولهذا حذفت من رواية كريمة أيضا عن الكشميهني، وكذا من رواية الأكثر.
الحديث:
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي سَجْدَتَيْنِ الْأَوَّلُ الْأَوَّلُ أَطْوَلُ
الشرح:
قوله: (حدثنا أبو أحمد) هو الزبيري، وسفيان هو الثوري، وهذا المتن طرف من الحديث الطويل الماضي في " باب صلاة الكسوف في المسجد " وكأنه مختصر منه بالمعنى فإنه قال فيه " ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول " وقال في هذا " أربع ركعات في سجدتين الأولى أطول " وقد رواه الإسماعيلي بلفظ " الأولى فالأولى أطول " وفيه دليل لمن قال: إن القيام الأول من الركعة الثانية يكون دون القيام الثاني من الركعة الأولى، وقد قال ابن بطال: إنه لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعيها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعيها.
وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأول وركوعه فيهما، واختلفوا في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأولى وركوعه أو يكونان سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله " وهو دون القيام الأول " هل المراد به الأول من الثانية أو يرجع إلى الجميع فيكون كل قيام دون الذي قبله.
ورواية الإسماعيلي تعين هذا الثاني، ويرجحه أيضا أنه لو كان المراد من قوله " القيام الأول " أول قيام من الأولى فقط لكان القيام الثاني والثالث مسكوتا عن مقدارهما، فالأول أكثر فائدة، والله أعلم.
*3*
باب الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْكُسُوفِ
الشرح:
قوله: (باب الجهر بالقراءة في الكسوف) أي سواء كان للشمس أو القمر.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ نَمِرٍ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَبَّرَ فَرَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يُعَاوِدُ الْقِرَاءَةَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ مُنَادِيًا بُ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نَمِرٍ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ مِثْلَهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ فَقُلْتُ مَا صَنَعَ أَخُوكَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَا صَلَّى إِلَّا رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ إِذْ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ قَالَ أَجَلْ إِنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ تَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي الْجَهْرِ
الشرح:
قوله: (أخبرنا ابن نمر) بفتح النون وكسر الميم، اسمه عبد الرحمن، وهو دمشقي وثقه دحيم والذهلي وابن البرقي وآخرون، وضعفه ابن معين لأنه لم يرو عنه غير الوليد وليس له في الصحيحين غير هذا الحديث، وقد تابعه عليه الأوزاعي وغيره.
قوله: (جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته) استدل به على الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير بذلك على كسوف القمر، وليس بجيد لأن الإسماعيلي روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ " كسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر الحديث، وكذا رواية الأوزاعي التي بعده صريحة في الشمس.
قوله: (وقال الأوزاعي وغيره سمعت الزهري الخ) وصله مسلم عن محمد بن مهران عن الوليد ابن مسلم حدثنا الأوزاعي وغيره فذكره، وأعاد الإسناد إلى الوليد قال: أخبرنا عبد الرحمن بن نمر فذكره، وزاد فيه مسلم طريق كثير بن عباس عن أخيه ولم يذكر قصة عبد الله بن الزبير، واستدل بعضهم على ضعف رواية عبد الرحمن بن نمر في الجهر بأن الأوزاعي لم يذكره في روايته الجهر، وهذا ضعيف لأن من ذكر حجة على من لم يذكر، لا سيما والذي لم يذكره لم يتعرض لنفيه، وقد ثبت الجهر في رواية الأوزاعي عند أبي داود والحاكم من طريق الوليد بن مزيد عنه، ووافقه سليمان بن كثير وغيره كما ترى.
قوله: (قال أجل) أي نعم وزنا ومعنى.
وفي رواية الكشميهني " من أجل " بسكون الجيم، وعلى الأول فقوله " أنه أخطأ " بكسر همزة إنه وعلى الثاني بفتحها.
قوله: (تابعه سليمان بن كثير وسفيان بن حسين عن الزهري في الجهر) يعني بإسناده المذكور، ورواية سليمان وصلها أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث عنه بلفظ " خسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكبر ثم كبر الناس ثم قرأ فجهر بالقراءة " الحديث، ورويناه في مسند أبي داود الطيالسي عن سليمان بن كثير بهذا الإسناد مختصرا " أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف " وأما رواية سفيان بن حسين فوصلها الترمذي والطحاوي بلفظ " صلى صلاة الكسوف وجهر بالقراءة فيها " وقد تابعهم على ذكر الجهر عن الزهري عقيل عند الطحاوي وإسحاق ابن راشد عند الدار قطني، وهذه طرق يعضد بعضها بعضا يفيد مجموعها الجزم بذلك فلا معنى لتعليل من أعله بتضعيف سفيان بن حسين وغيره، فلو لم يرد في ذلك إلا رواية الأوزاعي لكانت كافية، وقد ورد الجهر فيها عن على مرفوعا وموقوفا أخرجه ابن خزيمة وغيره.
وقال به صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية.
وقال الطبري: يخير بين الجهر والإسرار.
وقال الأئمة الثلاثة: يسر في الشمس ويجهر في القمر، واحتج الشافعي بقول ابن عباس " قرأ نحوا من سورة البقرة " لأنه لو جهر لم يحتج إلى تقدير، وتعقب باحتمال أن يكون بعيدا منه، لكن ذكر الشافعي تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فلم يسمع منه حرفا، ووصله البيهقي من ثلاثة طرق أسانيدها واهية، وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائدة فالأخذ به أولى، وإن ثبت العدد فيكون فعل ذلك لبيان الجواز، وهكذا الجواب عن حديث سمرة عند ابن خزيمة والترمذي " لم يسمع له صوتا " وأنه إن ثبت لا يدل على نفي الجهر، قال ابن العربي: الجهر عندي أولى لأنها صلاة جامعة ينادي لها ويخطب فأشبهت العيد والاستسقاء، والله أعلم.
(خاتمة) : اشتملت أبواب الكسوف على أربعين حديثا نصفها موصول ونصفها معلق، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنان وثلاثون، والخالص ثمانية.
وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي بكرة، وحديث أسماء في العتاقة، ورواية عمرة عن عائشة الأولى أطول لكنه أخرج أصله.
وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين خمسة آثار فيها أثر عبد الله بن الزبير، وفيها أثر عروة في تخطئته، وهما موصولان.
الحديث:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَبْوَابُ سُجُودِ الْقُرْآنِ
الشرح:
قوله: (أبواب سجود القرآن) كذا للمستملي، ولغيره " باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها " أي سنة سجود التلاوة، وللأصيلي " وسنته".
وسيأتي ذكر من قال بوجوبها في آخر الأبواب.
وسقطت البسملة لأبي ذر.
وقد أجمع العلماء على أنه يسجد وفي عشرة مواضع وهي متوالية إلا ثانية الحج و "ص"، وأضاف مالك "ص" فقط، والشافعي في القديم ثانية الحج فقط، وفي الجديد هي وما في المفصل وهو قول عطاء، وعن أحمد مثله في رواية، وفي أخرى مشهورة زيادة "ص" وهو قول الليث وإسحاق وابن وهب وابن حبيب من المالكية وابن المنذر وابن سريج من الشافعية، وعن أبي حنيفة مثله لكن نفي ثانية الحج وهو قول داود، ووراء ذلك أقوال أخرى منها عن عطاء الخراساني الجميع إلا ثانية الحج والانشقاق، وقيل بإسقاطهما وإسقاط "ص" أيضا، وقيل الجميع مشروع ولكن العزائم الأعراف وسبحان وثلاث المفصل روي عن ابن مسعود، وعن ابن عباس الم تنزيل وحم تنزيل والنجم واقرأ، وعن سعيد بن جبير مثله بإسقاط اقرأ، وعن عبيد بن عمير مثله لكن بإسقاط النجم وإثبات الأعراف وسبحان، وعن علي ما ورد الأمر فيه بالسجود عزيمة، وقيل يشرع السجود عند كل لفظ وقع فيه الأمر بالسجود أو الحث عليه والثناء على فاعله أو سيق مساق المدح وهذا يبلغ عددا كثيرا وقد أشار إليه أبو محمد بن الخشاب في قصيدته الإلغازية.