القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة

مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري


غير مسجل أهلاً ومرحباً بكم

العودة   منتديات الختمية > الأقسام العامة > المنتدى العام
التسجيل التعليمات المجموعات التقويم مشاركات اليوم البحث

المنتدى العام لقاء الأحبة في الله لمناقشة جميع المواضيع

كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه

المنتدى العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-18-2012, 11:03 AM   #41
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




فصل
في حكم زيارة قبره صلى الله عليه و سلم ، و فضيلة من زاره و سلم عليه
و زيارة قبره صلى الله عليه و سلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها ، و فضيلة مرغب فيها : روى عن ابن عمر رضي الله عنه .
حدثنا القاضي أبو علي ، قال : حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، قال : حدثنا الحسن بن جعفر ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني ، قال : حدثنا القاضي المحاملي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرزاق ، قال : حدثنا موسى بن هلال ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : قال : النبي صلى الله عليه و سلم من زار قبري و جبت له شفاعتي .
و عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من زارني في المدينة محتسباً كان في جواري ، و كنت له شفيعاً يوم القيامة
و في حديث آخر : من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي .
و كره مالك أن يقال : زرنا قبر النبي صلى الله عليه و سلم .
و قد اختلف في معنى ذلك ، فقيل : كرامة الاسم ، لما ورد من قوله صلى الله عليه و سلم : لعن الله زوارات القبور .
و هذا يرده قوله : نهيتم عن زيارة القبور فزوروها .
و قوله : من زار قبري ، فقد أطلق اسم الزيارة .
و قيل لأن ذلك لما قيل أن أفضل من المزور .
و هذا أيضاً ليس بشيء، إذ ليس كل زائر بهذه الصفة ، و ليس عموماً ، و قد ورد في حديث أهل الجنة : زيارتهم لربهم ، و لم يمنع هذا اللفظ في حقه تعالى .
و قال أبو عمران رحمه الله : إنما كره مالك أن يقال : طواف الزيارة ، و زرنا قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، لاستعمال الناس ذلك بينهم بعضهم لبعض ، فكرة تسوية النبي صلى الله عليه و سلم مع الناس بهذا اللفظ ، و أحب أن يخص بأن يقال : سلمنا على النبي صلى الله عليه و سلم .
و أيضاً فإن الزيارة مباحة بين الناس ، و واجب شد الرحال إلى قبره ، يريد بالوجوب هنا ندب و ترغيب و تأكيد ، لا وجوب فرض .
و الأولى عندي أن منعه و كراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، و أنه لو قال : زرت النبي لم يكرهه ، لقوله صلى الله عليه و سلم : اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد بعدي ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .
فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر ، و التشبه بفعل أولئك ، قطعاً للذريعة و حسماً للباب و الله أعلم .
قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه : و مما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة ، و القصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و التبرك برؤية روضته و منبره و قبره ، و مجلسه ، و ملامس يديه ، و مواطئ قدميه ، و العمود الذي كان يستند إليه ، و ينزل جبريل بالوحي فيه عليه ، و بمن عمره و قصده من الصحابة و أئمة المسلمين ، و الاعتبار بذلك كله .
[ 174 ] و قال ابن أبي فديك : سمعت بعض من أدركت يقول : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فتلا هذه الآية : إن الله وملائكته يصلون على النبي قال : صلى الله عليك يا محمد من يقولها سبعين مرة ناداه ملك : صلى الله عليك يا فلان ، و لم تسقط له حاجة .
و عن يزيد بن أبي سعيد المهري : قدمت على عمر بن عبد العزيز ، فلما ودعته قال لي : إليك حاجة ، إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فأقره مني السلام .
و قال غيره : و كان يبرد إليه البريد من الشام .
قال بعضهم : رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة ، فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم انصرف .
و قال مالك في رواية ابن وه ب : إذا سلم النبي صلى الله عليه و سلم ، و دعا ، يقف و وجهه إلى القبر الشريف لا إللى القبلة ، و يدنو ، و يسلم ، و لا يمس القبر بيده .
و قال في المبسوط : لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم يدعو ، و لكن يسلم و يمضي .
قال ابن أبي مليكة : من أحب أن يقوم وجاه النبي صلى الله عليه و سلم فليجعل القنديل الذي عند القبر على رأسه .
و قال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر ، رأيته مائة مرة و أكثر يجيء إلى القبر فيقول : السلام على النبي صلى الله عليه و سلم ، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي ، ثم ينصرف .
[ و رئي ابن عمر واضعاً يده على مقعد النبي صلى الله عليه و سلم من المنبر ، ثم وضعها على وجهه .
و عن ابن قسيط و العتبي : كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إذا خلا المسجد جسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ، ثم استقبلوا القبلة يدعون ] .
و في الموطأ من رواية [ 176 ] يحيى بن يحيى الليثي أنه كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيصلي على النبي ، و على أبي بكر ، و عمر .
و عن ابن القاسم و القعنبي : و يدعو لأبي بكر ، و عمر .
قال مالك في رواي ة ابن وهب : يقول المسلم : السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته .
قال في المبسوط : و يسلم على أبي بكر ، و عمر .
قال القاضي أبو الوليد الباجي : و عندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه و سلم بلفظ الصلاة ، و لأبي بكر ، و عمر ، كما في حديث ابن عمر من الخلاف .
و قال ابن حبيب : و يقول إذا دخل مسجد الرسول : بسم الله ، و سلام على رسول الله عليه السلام ، السلام علينا من ربنا ، و صلى الله و ملائكته على محمد .
اللهم اغفر لي ذنوبي ، و افتح لي أبواب رحمتك و جنتك ، و احفظني من الشيطان الرجيم ، ثم اقصد إلى الروضة ، و هي ما بين القبر و المنبر فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر تحمد الله فيهما و تسأله تمام ما خرجت إليه و العون عليه .
و إن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك ، و في الروضة أفضل .
و قد قال صلى الله عليه و سلم : ما بين منبري و قبري روضة من رياض الجنة ، و منبري على ترعة من ترع الجنة .
ثم تقف متواضعاً متوقراً ، فتصلي عليه و تثني بما يحضرك ، و تسلم على أبي بكر و عمر ، و تدعو لهما .
و أكثر من الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم بالليل و النهار ، و لا ت دع أن تأتي مسجد قباء و قبور الشهداء .
و قال مالك [ 175 ] في كتاب محمد : و يسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فادخل و خرج يعني في المدينة و فيما بين ذلك .
و قال محمد : و إذا خرج جعل آخر عهده الوقوف بالقبر ، و كذلك من خرج مسافراً .
و روى ابن وهب عن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه و سلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخلت المسجد فصل على النبي صلى الله عليه و سلم ، و قل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، و افتح لي أبواب رحمتك . و إذا خرجت فصل على النبي صلى الله عليه و سلم ، و قل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، و افتح لي أبواب فضلك .
و في رواية أخرى : فليسلم مكان : فليصل فيه ، و يقول إذا خرج : اللهم إني أسألك من فضلك .
و في أخرى : اللهم احفظني من الشيطان الرجيم .
و عن محمد بن سيرين : كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد : صلى الله و ملائكته على محمد . السلام عليك أيها النبي و رحمة الله ، باسم الله دخلنا ، و باسم الله خرجنا ، و على الله توكلنا .
و كانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك .
و عن فاطمة أيضاً : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دخل المسجد قال : ص لى الله على محمد و سلم . ثم ذكر مثل حديث فاطمة قبل هذا .
و في رواية : حمد الله و سمى ، و صلى على النبي صلى الله عليه و سلم ، و ذكر مثله .
و في رواية : باسم الله ،و السلام على رسول الله .
و عن غيرها : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل المسجد قال : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، و يسر لي أبواب رزقك .
و عن أبي هريرة : إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه و سلم ، و ليقل : اللهم افتح لي .
و قال مالك في المسبوط :و ليس يلزم من دخل المسجد و خرج منه من أهل المدينة الوقو ف بالقبر ، و إنما ذلك للغرباء .
و قال فيه أيضاً : لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فيصلي عليه و يدعو له و لأبي بكر و عمر .
فقيل له : فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر و لايريدونه ، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر ، ربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة أو الأيام المرة و المرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون و يدعون ساعة ! .
فقال : لم يبلغني هذا على أحد من أهل الفقه ببلدنا ، و تركه واسع ، و لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، و لم يبلغني ع ن أول هذه الأمة و صدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ، و يكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده .
قال ابن القاسم : و رأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر فسلموا ، قال : و ذلك رأيي .
قال الباجي : ففرق بين أهل المدينة و الغرباء ، لأن الغرباء قصدوا لذلك ، و أهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر و التسليم .
و قال صلى الله عليه و سلم : اللهم لا تجعل قبري و ثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .
و قال : لا تجعلوا قبري عيداً .
و من كتاب أحمد بن سعيد[ 176 ] الهندي فيمن و قف بالقبر : لا يلصق به ، و لا يمسه ، و لا يقف عنده طويلاً .
و في العتبية : يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم ، و أحب مواضع التنقل فيه مصلى النبي حيث العمود المخلق .
و أما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف و التنقل فيه للغرباء أحب إلي من التنقل في البيوت .



القسم الثالث : فيما يستحيل في حقه ، و ما يجوز عليه شرعاً ، و ما يمتنع و يصح من الأمور البشرية أن يضاف إليه .
فصل
عصمة النبي صلى الله عليه و سلم في أقواله و أفعاله
و أما أقواله صلى الله عليه و سلم فقامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه ، و أجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به ، لا قصداً و عمداً ، و لا سهواً و غلطاً .
أما تعمد الخلف في ذلك فمنتف ، بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله فيما قال اتفاقا ، و بإطباق أهل الملة إجماعاً .
و أما وقوعه على جهة الغلط في ذلك فبهذه السبيل عند الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني و من قال بقوله ، و من جهة الإجماع فقط ، و ورود الشرع بانتقاء ذلك ، و عصمة النبي صلى الله عليه و سلم لا من مقتضى المعجزة نفسها عند القاضي أبي بكر الباقلاني و من وافقه لاختلاف بينهم في مقتضى دليل المعجزة لا تطول بذكره ، فنخرج عن غرض الكتاب ، فلنعتمد على ما وقع عليه إجماع المسلمين رسول أنه لا يجوز عليه خلف في القول في إبلاغ الشريعة ، و الإعلام بما أخبر به عن ربه ، و ما أوحاه إليه من وحيه ، لا على وجه العمد ، و لا على غير عمد ، ولا في حالي الرضا و السخط ، و الصحة و المرض .
و في حديث عبد الله بن عمرو : قلت يا رسول الله ، أكتب كل ما أسمع من ك ؟ قال : [ نعم ] . قلت : في الرضا و الغضب ؟ قال : [ نعم ، فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا ] .
و لنزد ما أشرنا إليه من دليل المعجزة عليه بياناً ، فنقول :
إذا قامت المعجزة على صدقه ، و أنه لا يقول إلا حقا ، و لا يبلغ عن الله إلا صدقاً ، و أن المعجزة قائمة مقام قول الله له : صدقت فيما تذكره عني ، وهو يقول : إني رسول الله إليكم لأبلغكم ما أرسلت به إليكم ، و أبين لكم ما نزل عليكم ، وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى [ سورة النجم / 53 ، الآية 3 ، 4 ] .
و قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم [ سورة النساء /4 ، الآية : 170 ] .
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فلا يصح أن يوجد منه في هذا الباب خبر بخلاف مخبره على أي وجه كان .
و لو جوزنا عليه الغلط و السهو لما تميز لنا من غيره ، و لا اختلط الحق بالباطل ، فالمعجزة مشتملة على تصديقه جملة واحدة من غير خصوص ، فتنزيه النبي عن ذلك كله واجب برهاناً و إجماعاً كما قاله أبو إسحاق .
فصل
سؤالات لبعض الطاعنين
و قد توجهت هنا لبعض الطاعنين [195 ] سؤالات ، منها :
ما روي من أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قرأ والنجم ، و قال : أفرأيتم اللاتوالعزى * ومناة الثالثة الأخرى -قال : تلك الغرانيق العلا ، و إن شفاعتها لترتجى ويروى : ترتضى . و في رواية : إن شفاعتها لترتجي ، و إنها لمع الغرانيق العلا .
و في أخرى : و الغرانقة العلا ، تلك للشفاعة ترتجى .
فلما ختم السورة سجد ، و سجد معه المسلمون و الكفار لما سمعوه أثنى على آلهتهم .
و ما وقع في بعض الروايات أن الشيطان ألقاها على لسانه ، و أن النبي صلى الله عليهو سلم كان تمنى أن لو نزل عليه شيء يقارب بينه و بين قومه .
و في رواية أخرى : ألا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه ، و ذكر هذه القصة ، و أن جبريلعليه السلام جاء فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين قال له : ما جئتك بهاتين . فحزن لذلك النبي صلى الله عليه و سلم ، فأنزل الله تعالى تسلية له : وما أرسلنا منقبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقيالشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم [ سورة الحج / 22 ، الآية : 52 ] .
و قوله : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوكخليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17 ،الآية : 73 ، 74 ] .
فاعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين :
أحدهما : في توهين أصله ، و الثاني على تسليمه .
أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، و لا رواه ثقةبسند سليم متصل ، و إنما أولع به و بمثله المفسرون و المؤرخون المولعون بكل غريب ،المتلقفون من الصحف كل صحيح و سقيم .
و صدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير ، و تعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته و اضطراب رواياته ، و انقطاع إسناده ،و اختلاف كلماته ، فقائل يقول : إنه في الصلاة ، و آخر يقول : قالها في نادي قومهحين أنزلت عليه السورة ، و آخر يقول : قالها و قد أصابته سنة ، و آخر يقول : بل حدثنفسه فسها ، و آخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه ، و إن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا أقرأتك ، و آخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أنالنبي صلى الله ع ليه و سلم قرأها ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه و سلم ذلك قال : و الله ما هكذا نزلت إلى غير ذلك من اختلاف الرواة .
و من حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين و التابعين لم يسندها أحد منهم ، و لا رفعهاإلى صاحب ، و أكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية ، و المرفوع فيه حديث شعبة : عن أبيبشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال فيما أحسب الشك في الحديث أن النبيصلى الله عليه و سلم كان بمكة ... و ذكر القصة .
قال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلمبإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ، و لم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، و غيرهيرسله عن سعيد بن جبير ، و إنما يعرف عن الكلبي ، ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس فقدبين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا .
و فيه من [ 196 ] الضعف ما نبه عليه مع و قوع الشك فيه ، كما ذكرناه ، الذي لا يوثقبه ، و لا حقيقة معه .
و أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه و لا ذكره لقوة ضعفه و كذبه ، كما أشارإليه البراز : رحمه الله .
و الذي منه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ : والنجم و هو بمكة ،فسجد معه المسلمون و المشركون و الجن و الإنس .
هذا توهينه من طريق النقل فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة ، و أجمهت الأمة علىعصمته صلى الله عليه و سلم و نزاهته عن مثل هذه الرذيلة ، إما من تمنيه أن ينزلعليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله ، و هو كفر ، أو أن يتسور عليه الشيطان ، ويشبهعليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، و يعتقد النبي صلى الله عليه و سلم أن منالقرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام ، و ذلك كله ممتنع في حقه صلى اللهعليه و سلم ، أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه و سلم من قيل نفسه عمداً ، و ذلك كفر، أو سهواً ، و هو معصوم من هذا كله .
و قد قررنا بالبراهين و الإجماع عصمته صلى الله عليه و سلم من جريان الكفر على قلبهأو لسانه ، لا عمداً و لا سهواً ، أو أن يشبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل ، أو أن يتقول على الله ، لا عمداً و لا سهواً ، ما لمينزل عليه ، و قد قال الله تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منهباليمين * ثم لقطعنا منه الوتين [ سورة الحاقة / 69 ، الآية : [ 44 ، 46 ] .
قال تعالى : إذا لأذقنا ك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا [ سورةالإسراء /17 ، الآية 75 ] .
و وجه ثان ، و هو استحالة هذه القصة نظراً و عرفاً ، و ذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام ، لكونه متناقص الأقسام ، ممتزج المدح بالذم ، متخاذلالتأليف و النظم . و لما كان النبي صلى الله عليه و سلم و لا من بحضرته من المسلمين، و صناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك ، و هذا لا يخفى على أدنى متأمل ، فكيف بمنرجع حلمه ، و اتسع في باب البيان و معرفة فصيح الكلام علمه .
و وجه ثالث أنه علم من عادة المنافقين ، و معاندي المشركين ، و ضعفة القلوب ، والجهلة من المسلمين نفوزهم لأول وهلة ، و تخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة ، و تعييرهم المسلمين ، و الشمات بهم الفينة بعد الفينة ، و ارتدادمن في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة ، و لم يحك أحد في هذه القصة شيئاً سوىهذه الرواية الضعيفة الأصل ، و لو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة ، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة ، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلكلبعض الضعفاء ردة ، و كذلك ما روى في قصة القضية ، و لا فتنة أعظم من هذه البينة لووجدت ، و لا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت ، فما روى عن معاندفيها كلمة ، و لا عن مسلم بسببها بنت شفة ، فدل على بطلها و اجتثاث أصلها .
و لا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو [ 197 ] الجن هذا الحديث على بعض مغفليالمحدثين ، ليلبس به على ضعفاء المسلمين .
و وجه رابع : ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت : وإن كادوا ليفتنونك عن الذيأوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركنإليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17 ، الآيتان : 73، 74 ] .
و هاتان الآيتان يردان الخبر الذي رووه ، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونهحتى يفتري ، و أنه ثبته لكاد يركن إليهم .
فمضمون هذا و مفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، و ثبته حتى لم يركن إليهمقليلاً ، فكيف كثيراً ! و هم يروون أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون و الإفتراءبمدح آلهتهم و أنه قال صلى الله عليه و سلم : افتريت على الله ، وقلت ما لم يقل ، وهذا ضد مفهوم الآية ، و هي تضعف الحديث لو صح ، فكيف و لا صحة له .
و هذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى : ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفةمنهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء [ سورة النساء / 4 ، الآية : 113 ] .
و قد روي عن ابن عباس : كل ما في القرآن كاد فهو ما لا يكون ، قال الله تعالى : يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ، و لم يذهب . و أكاد أخفيها ، و لم يفعل .
قال القشيري القاضي : و لقد طالبته قريش و ثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليهاو وعدوه الإيمان به إن فعل ، فما فعل ، و لا كان ليفعل .
قال ابن الأنباري : ما قارب الرسول و لا ركن .
و قد ذكرت في معنى هذه الآية تفاسير أخر ما ذكرناه من نص الله على عصمة رسوله يردسفسافها ، فلم يبق في الآية إلا أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته و تثبيته مماكاده به الكفار ، و راموا من فتنته ، و مرادنا من ذلك تنزيهه و عصمته صلى الله عليهو سلم ، و هو مفهوم الآية .
و أما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح ، و قد أعاذنا الله من صحته ،و لكن على كل حال فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ، منها الغث و السمين ،فمنها ما روى قتادة و مقاتل أن النبي صلى الله عليه و سلم أصابته سنة عند قراءتههذه السورة فج رى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم .
و هذا لا يصح ، إذ لا يجوز على النبي مثله في حالة من أحواله ، و لا يخلقه الله علىلسانه ، و لا يستولي الشيطان عليه في نوم و لا يقظة لعصمته في هذا الباب من جميعالعمد و السهو .
و في قول الكلبي : إن النبي صلى الله عليه و سلم حدث نفسه ، فقال ذلك الشيطان علىلسانه .
و في رواية ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، قال : وسها ، فلما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان .
و كل هذا لا يصح أن يقوله النبي صلى الله عليه و سلم لا سهواً و لا قصداً ، و لايتقوله الشيطان على لسانه .
و قيل : لعل النبي صلى الله عليه و سلم قال في أثناءتلاوته على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار ، كقول إبراهيم عليه السلام : هذا ربي على أحد التأويلات .
و كقوله : بل فعله كبيرهم هذا بعد السكت و بيان الفصل بين الكلامين ، ثم رجع إلىتلاوته .
و هذا [ 198 ] ممكن مع بيان الفصل و قرينة تدل على المراد ، و أنه ليس من المتلو ،و هو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر .
و لا يعترض على هذا بما روي أنه كان في الصلاة ، فقد كان الكلام قبل فيها غير ممنوع .
و الذي يظهر و يترجح في تأويله عنده و عند غيره من المحققين على تسليمه أن النبيصلى الله عليه و سلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا ، و يفصل الآي تفصيلافي قراءته ، كما رواه الثقات عنه ، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات و دسه فيها مااختلقه من تلك الكلمات محاكياً نغمة النبي صلى الله عليه و سلم بحيث يسمعه من دناإليه من الكفار ، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه و سلم ، و أشاعوها ، و لم يقدحذلك عند المسلمين بحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله و تحققهم من حال النبيصلى الله عليه و سلم في ذم الأوثان و عيبها على ما عرف منه .
[ و قد حكى موسى بن عقبة في مغازيه نحو هذا ، و قال : إن المسلمين لم يسمعوها ، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين و قلوبهم ] ، و يكون ما روي من حزن النبيصلى الله عليه و سلم لهذه الإشاعة و الشبهة ، و سبب هذه الفتنة .
و قد قال الله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقىالشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم، فمعنى تمنى : تلا ، قال الله تعالى : لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، أي تلاوة .
و قوله : ف ينسخ الله ما يلقي الشيطان ، أي يذهبه ، و يزيل اللبس به ، و يحكم آياته .
و قيل : معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه و سلم من السهو إذا قرأ فينتبهلذلك و يرجع عنه .
و هذا نحو قول الكلبي في الآية : إنه حدث نفسه ، و قال : إذا تمنى ، أي حدث نفسه .
و في رواية أبي بكر بن عبد الرحمن نحوه .
و هذا السهو في القراءة إنما يصح فيما ليس طريقه تغيير المعاني ، و تبديل الألفاظ ،و زيادة ما ليس من القرآن ، بل السهو عن إسقاط آية منه أو كلمة ، و لكنه لا يقر علىهذا السهو ، بل ينبه عليه ، و يذكر به للحين على ما سنذكره في حكم ما يجوز عليه منالسهو و ما لا يجوز .
و مما يظهر في تأويله أيضاً أن مجاهداً روى هذه القصة : و الغرانقة العلا ، فإنسلمنا القصة قلنا : لا يبعد أن هذا كان قرآناً ، و المراد بالغرانقة العلا ، و أنشفاعتهن لترتجى : الملائكة على هذه الرواية .
و بهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة ، و ذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثانو الملائكة بنات الله ، كما حكى عنهم ورد عليهم في هذه السورة بقوله : ألكم الذكروله الأنثى ، فأنكر الله هذا من قولهم ، و رجاء الشفاعة من الملائكة صحيح ، فلماتأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ، و لبس عليهم الشيطان ذلك ، وزينة في قلوبهم و ألقاه ، إليهم نسخ الله ما ألقى الشيطان ، و أحكم آياته ، و رفعتلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للإلباس ، كما نسخ كثير منالقرآن و رفعت تلاوته ، و كان في إنزال الله تعالى لذلك حكمة ، و في نسخه حكمة ،ليضل به من يشاء و يهدي من يشاء ، و ما يضل به إلا الفاسقين ، و ليجعل ما يلقيالشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن اللهلهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [ سورة الحج / 22 ، الآيتان : 53 ، 54 ] .
و قيل : إن النبي صلى الله عليه و سلم لما قرأ هذه السورة ، و بلغ ذكر اللات والعزى و مناة الثالثة الأخرى خاف الكفار أن يأتي بشيء من ذمها فسبقوا إلى مدحهابتلك الكلمتين ليخلطوا في تلاوة النبي صلى الله عليه و سلم ، و يشغبوا عليه علىعادتهم و قولهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [ سورة فصلت ،الآية : 26 ] .
و نسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه ، و أشاعوا ذلك و أذاعوه ، و أنالنبي صلى الله عليه و سلم قاله ، فحزن لذلك من كذبهم و افترائهم عليه ،فسلاه الله

تعالى بقوله :
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، و بين للناس الحق من ذلك من الباطل ، و حفظ القرآن ، و أحكم آياته ، و دفع ما لبس به العدو ، كما ضمنه تعالى من قوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ سورة الحجر / 15 ، الآية : 9 ] .
و من ذلك ما روي من قصة يونس عليه السلام و أنه وعد قومه بالعذاب عن ربه ، فلما تابوا كشف عنهم العذاب ، فقال : لا أرجع كذاباً أبداً ، فذهب مغاضباً .
فاعلم أكرمك الله أن ليس في خبر من الأخبار الواردة في هذا الكتاب أن يونس عليه السلام قال لهم : إن الله مهلككم ، و إنما فيه أنه دعا عليهم بالهلاك ، و الدعاء ليس بخبر يطلب صدقة من كذبه ، لكنه قال لهم : إن العذاب مصبحكم وقت كذا ، فكان ذلك ، كما قال ، ثم رفع الله تعالى عنهم العذاب و تداركهم ، قال الله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ سورة يونس / 10 ، الآية : 98 ] .
و روي في الأخبار انهم رأوا دلائل العذاب و مخايله ، قاله ابن مسعود .
و قال سعيد بن جبير : غشاهم العذاب كما يغشى الثواب القبر .
فإن قلت : فما معنى ما روي من أن عبد الله بن أبي سرح كان يكتب لرسول صلى الله عليه و سلم ، ثم ارتد مشركاً ، و صار إلى قريش تعالى فقال لهم : إني كنت أصرف محمداً حيث أريد ، كان يملى على [ عزيزحكيم ] فأقول أو [ عليم حكيم ] ؟ فيقول : نعم ، كل صواب .
و في حديث أخر : فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم : اكتب كذا فيقول : أكتب كذا ؟ فيقول : اكتب كيف شئت و يقول : اكتب عليماً حكيماً ، فيقول أكتب : سيمعاً بصيراً ، فيقول له : اكتب كيف شئت .
و في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن نصرانياً كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم بعد ما أسلم ثم ارتد ، و كان يقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له .

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً  
عزيزنا الزائر لن تتمكن من مشاهدة التوقيع إلاَّ بتسجيل دخولك
قم بتسجيل الدخول أو قم بالتسجيل من هنا
رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:04 AM   #42
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




فاعلم ثبتنا الله و إياك على الحق ، و لا جعل للشيطان و تلبيسه الحق بالباطل إلينا سبيلاً أن مثل هذه الحكاية أولاً لا توقع في قلب مؤمن ريناً ، إذ هي حكاية عمن ارتد و كفر بالله ، و نحن لا نقبل خبر المسلم المتهم ، فكيف بكافر اف ترى هو و مثله على الله و رسله ما هو أعظم من هذا ! .
و العجب لسليم العقل بشغل بمثل [ 200 ] هذه الحكاية سره ، و قد صدرت من عدو كافر مبغض للدين ، مفتر على الله و رسوله ، و لم ترد عن أحد من المسلمين ، و لا ذكر أحد من الصحابة أنه شاهد ما قاله و افتراه على نبي الله ، و إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ، و أولئك هم الكاذبون .
[ و ما و قع من ذكرها في حديث أنس رضي الله عنه و ظاهر حكايتها ، فليس فيه ما يدل على أنه شاهدها ، و لعله حكى ما سمع .
و قد علل البزار حديثه ذلك ، و قال : رواه ثابت عنه ، و لم يتابع عليه ، و رواه حميد عن أنس ، قال : و أظن إنما سمعه من ثابت .
قال القاضي أبو الفضل و فقه الله : و لهذا ، و الله أعلم ، لم يخرج أهل الصحيح حديث ثابت و لا حميد . و الصحيح حديث عبد العزيز بن رفيع عن أنس رضي الله عنه الذي خرجه أهل الصحة و ذكرناه ، و ليس فيه عن أنس قول شيء من ذلك من قبل نفسه إلا من حكايته عن المرتد النصراني ] ، و لو كانت صحيحة لما كان فيها قدح و لا تو هيم للنبي صلى الله عليه و سلم فيما أوحي إليه ، و لا جواز للنسيان و الغلط عليه و التحريف فيما بل غه و لا طعن في نظم القرآن ، و أنه من عند الله ، إذ ليس فيه لو صح أكثر من أن الكاتب قال له : عليم حكيم و كتبه ، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : كذلك هو ، فسبقه لسانه أو قلمه لكلمة أو كلمتين مما نزل على الرسول قبل إظهار الرسول لها ، إذ كان ما تقدم مما أملاه الرسول يدل عليها و يقتضي وقوعها بقوة قدرة الكاتب على الكلام و معرفته به ، و جودة حسه و فطنته ، كما يتفق ذلك للعارف إذا سمع البيت أن يسبق إلى قافيته ، أو مبتدأ الكلام الحسن إلى ما يتم به ، و لا يتفق في جملة الكلام ، كما لا يتفق ذلك في آية و لا سورة .
و كذلك قوله صلى الله عليه و سلم : كل صواب إن صح ، فقد يكون هذا فيما كان فيه من مقاطع الآي و جهان و قراءتان أنزلتا جميعاً على النبي صلى الله عليه و سلم ، فأملى إحداها ، و توصل الكاتب بفطنته و معرفته بمقتضى الكلام إلى الأخرى ، فذكرها للنبي صلى الله عليه و سلم كما قدمناه ، فصوبها له النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم أحكم الله من ذلك ما أحكم ، و نسخ ما نسخ كما قد وجد ذلك في بعض مقاطع الآي ، مثل قوله تعالى : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [ س ورة المائدة /5 ، الآية : 118 ] .
و هذه قراءة الجمهور و قد قرأ جماعة : [ فإنك أنت الغفور الحكيم ] . و ليست من المصحف .
و كذلك كلمات جاءت على وجهين في غير المقاطع ، قرأ بهما جميعاً الجمهور ، وثبتنا في المصحف ، مثل : وانظر إلى العظام كيف ننشزها و ننشزها و يقتضي الحق و يقص الحق .
و كل هذا لا يوجب ريناً ، و لا ينسب للنبي صلى الله عليه و سلم غلطة و لا وهماً .
و قد قيل : إن هذا يحتمل أن يكون فيما يكتبه عن النبي صلى الله عليه و سلم إلى الناس غير القرآن ، فيصف الله و يسميه في ذلك كيف يشاء .



فصل
فيما يتصل بأمور الدنيا و أحوال نفسه
هذا القول فيما طريقه البلاغ ، و أما ما ليس سبيله من الأخبار التي لا مستند لها إلى الأحكام ، و لا أخبار المعاد ، و لا تضاف إلى وحي ، بل في أمور الدنيا و أحوال نفسه فالذي يجب اعتقاده تنزيه النبي صلى الله عليه و سلم أن يقع خبره في شيء من ذلك بخلاف مخبره ، لا عمداً و لا سهواً و لا غلطاً ، و أنه معصوم من ذلك في حال رضاه و في سخطه ، و جده و مزحه و صحته و مرضه .
و دليل ذلك اتفاق السلف و إجماعهم عليه ، و ذلك أنا نعلم من دين الصحابة و عادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله ، و الثقة بجميع أخباره في أي باب كانت ، و عن أي شيء وقعت ، و أنه لم يكن لهم توقف و لا تردد في شيء منها ، و لا استثبات عن حاله عند ذلك ، هل وقع فيها سهو أم لا ؟
و لما [ 201 ] احتج ابن أبي الحقيق اليهودي على عمر حين أجلاهم من خيبر بإقرار رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و احتج عليه عمر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه و سلم : كيف بك إذا أخرجت من خيبر ؟ فقال اليهودي : كانت هزيلة من أبي القاسم . فقال عمر : كذبت يا عدو الله .
و أيضاً فإن أخباره و آثاره و سيره و شمائله م عتنى بها مستقصى تفاصيلها ، و لم يرد في شيء منها استدراكه صلى الله عليه و سلم لغلط في قول قاله ، أو اعترافه بوهم في شيء أخبربه ، و لو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته عليه السلام في رجوعه صلى الله عليه و سلم عما أشار به على الأنصار في تلقيح النخل و كان ذلك رأياً لا خبرا ، و غير ذلك من الأمور التي ليست من هذا الباب ، كقوله صلى الله عليه و سلم : و الله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي حلفت عليه و كفرت عن يميني .
و قوله : إنكم تختصمون إلي ... الحديث .
قوله : اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر كما سنبين كل ما في هذا من مشكل ما في هذا الباب و الذي بعده إن شاء الله ، مع أشباهها .
و أيضاً فإن الكذب متى عرف من أحد في شيء من الأخبار بخلاف ما هو على أي وجه كان استريب بخيره ، و اتهم في حديثه ، و لم يقع قوله في النفوس موقعاً ، و لهذا ما ترك المحدثون و العلماء الحديث عمن عرف بالوهم و الغفلة و سوء الحفظ ، و كثرة الغلط للمروءة ، مع ثقة .
و أيضاً فإن تعمد الكذب في أمور الدنيا معصية ، و الإكثار منه كبيرة بإجماع ، مسقط للمروءة .
و كل هذا مما ينزه عنه منصب النب وة ، و المرة الواحدة منه فيا يستبشع و يستشنع و يشيع مما يخل بصاحبها ، و يزري بقائلها لا حقة بذلك .
و أما فيما لا يقع هذا الموقع فإن عددناها من الصغائر فهل يجري على حكمها في الخلاف فيها ؟ مختلف فيه . و الصواب تنزيه النبوة عن قليله و كثيره ، سهوه و عمده ، إذ عمدة النبوة البلاغ و الإعلام و التبين ، و تصديق ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم . و تجويز شيء من هذا قادح في ذلك ، و مشكك فيه ، مناقض للمعجزة ، فلنقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء خلف في القول في وجه من الوجوه ، لا بقصد و لا بغير قصد ، و لا تتسامح مع من سامح في تجويز ذلك عليهم حال السهو مما ليس طريقه البلاغ ، نعم ، و بأنه لا يجوز عليهم الكذب قبل النبوة ، و لا الاتسام به في أمورهم و أحوال دنياهم ، لأن ذلك كان يزري و يريب ، و ينفر القلوب عن تصديقهم بعد .
و انظر أحوال أهل عصر النبي صلى الله عليه و سلم من قريش و غيرها من الأمم و سؤالهم عن حاله في صدق لسانه ، و ما عرفوا به من ذلك و اعترفوا به مما عرف ، و اتفق النقل على عصمة نبينا صلى الله عليه و سلم منه قبل و بعد ، و قد ذكرنا من الآثار فيه في الباب الثاني أول الكتاب ما يبين ل ك صحة ما أشرنا إليه .
فصل
في حديث السهو
فإن قلت : فما معنى قوله صلى الله عليه و سلم في حديث السهو الذي حدثنا به الفقيه أبو إسحاق [ 202 ] إبراهيم بن جعفر حدثنا القاضي أبو الأصبغ بن سهل ، حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو عبد الله بن الفخار ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا يحيى ، عن مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد أنه قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة العصر ، فسلم في ركعتين ، فقام ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : كل ذلك لم يكن .
و في الرواية الآخرى : ما قصرت و ما نسيت .. الحديث بقصته ، فأخبره بنفي الحالتين ، و أنها لم تكن ، و قد كان أحد ذلك كما قال ذو اليدين : قد كان بعض ذلك يا رسول الله ...
فاعلم وفقنا لله و إياك أن للعلماء في ذلك أجوبة ، بعضها بصدد الإنصاف ، و منها ما هو بنية التعسف و الاعتساف ، و هأنا أقول :
أما على القول بتجويز الوهم و الغلط فيما ليس طريقه من القول البلاغ ، و هو الذي زيفناه من القولين فلا اعتراض بهذا الحديث و شبهه .
و أما على مذهب من يمنع السهو في أفعاله جملة ، و يرى أنه في مثل هذا عامد لصورة النسيان ليسن ، فهو صادق في خبره ، لأنه لم ينس و لا قصرت ، و لكنه على هذا القول تعمد هذا الفعل في هذه الصورة لمن اعتراه مثله ، و هو قول مرغوب عنه و نذكره في موضعه
و أما على إحالة السهو عليه في الأقوال و تجويز السهو عليه فيما ليس طريقه القول كما سنذكره ففيه أجوبة ، منها :
أن النبي صلى الله عليه و سلم أخبر عن اعتقاده و ضميره ، أما إنكار القصر فحق و صدق باطناً و ظاهراً . و أما النسيان فأخبر صلى الله عليه و سلم عن اعتقاده ، و أنه لم ينس في ظنه ، فكأنه قصد الخبر عن ظنه و إن لم ينطق به ، و هذا صدق أيضاً .
و وجه ثاني : أن قوله : و لم أنس راجع إلى السلام ، أي إني سلمت قصداً ، و سهوت عن العدد ، أي لم أسه في نفس السلام ، و هذا محتمل ، و فيه بعد .
و وجه ثالث و هو أبعدهما ما ذهب إليه بعضهم ، و إن احتمله اللفظ من قوله : كل ذلك لم يكن : أي لم يجتمع القصر و النسيان ، بل كان أحدهما . و مفهوم اللفظ خلافه مع الرواية الأخرى الصحيحة ، و هو قوله : ما قصرت الصلاة و ما نسيت .
هذا ما رأيت فيه لأئمتنا ، و كل من ه ذه الوجوه محتمل للفظ على بعد بعضها و تعسف الآخر منها .
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله : و الذي أقول و يظهر لي أنه أقرب من هذه الوجوه كلها أن قوله صلى الله عليه و سلم : لم أنس إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه ، و أنكره على غيره بقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا و كذا ، و لكنه نسي .
و بقوله في بعض روايات الحديث الآخر : لست أنسى ، و لكن أنسى . فلما قال له السائل : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ أنكر قصرها كما كان ، و نسيانه هو من قبل نفسه ، وإنه إن كان جرى شيء من ذلك فقد نسي حتى سأل غيره ، فتحقق أنه نسي ، و أجرى عليه ذلك [ 203 ] ليسن ، فقوله على هذا : لم أنس و لم تقتصر ، و كل ذلك لم يكن صدق و حق ، لم تقصر ، و لم ينس حقيقة ، و لكنه نسي .
و وجه آخر استثرته من كلام بعض المشايخ ، و ذلك أنه قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسهو و لا ينسى ، و لذلك نفى عن نفسه النسيان ، قال : لأن النسيان غفلة و آفة ، و السهو إنما هو شغل بال ، قال : فكان النبي صلى الله عليه و سلم يسهو في صلاته و لا يغفل عنها ، و كان يشغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة ، شغلاً بها لا غفلة عنها .
فهذا إن تحقق على هذا المعنى لم يكن في قوله : ما قصرت و لا نسيت خلف في قول .
[ و عندي أن قوله : ما قصرت الصلاة و ما نسيت بمعنى الترك الذي هو أحد وجهي النسيان ، أراد و الله أعلم أني لم أسلم من ركعتين تاركاً لإكمال الصلاة ، و لكني نسيت ، و لم يكن من تلقاء نفسي .
و الدليل على ذلك قوله في الحديث الصحيح : إني لأنسى أو أنسى لأسن ] .
و أما قصة كلمات إبراهيم المذكورة في الحديث أنها كذباته الثلاث المنصوصة في القرآن منها اثنتان : قوله : إني سقيم . و قوله : قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا . و قوله للملك عن زوجته : إنها أختي فاعلم أكرمك الله أن هذه كلها خارجة عن الكذب ، لا في القصد و لا في غيره ، و هي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب .
أما قوله : إني سقيم فقال الحسن و غيره : معناه سأسقم ، أي إن كل مخلوق معرض لذلك ، فاعتذر لقومه من الخروج معهم إلى عيدهم بهذا .
و قيل : بل سقيم بما قدر علي من الموت .
و قيل : سقيم القلب بما أشاهده من كفركم و عنادكم .
و قيل : بل كانت الحمى تأخذه عند طلوع نجم معلوم ، فلما رآه اعتذر ب عادته .
و كل هذا ليس فيه كذب ، بل هو خبر صحيح صدق .
و قيل : بل عرض بسقم حجته عليهم ، و ضعف ما أراد بيانه لهم من جهة النجوم التي كانوا يشتغلون بها ، و أنه أثناء نظره في ذلك ، و قبل استقامة حجته عليهم في حال سقم و مرض حال ، مع أنه لم يشك هو و لا ضعف إيمانه ، و لكنه ضعف في استدلاله عليهم و سقم نظره ، كما يقال : حجة سقيمة ، و نظر معلول ، حتى ألهمه الله باستلاله و صحة حجته عليهم بالكواكب و الشمس و القمر ما نصه الله تعالى ، و قد قد منا بيانه .
و أما قوله : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فإنه علق خبره بشرط نطقه ، كأنه قال : إن كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه . و هذا صدق أيضاً ، و لا خلف فيه .
و ما قوله : أختي فقد بين في الحديث ، و قال : فإنك أختي في الإسلام ، و هو صدق ، و الله تعالى يقول : إنما المؤمنون إخوة [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 10 ] .
فإن قلت : فهذا النبي صلى الله عليه و سلم قد سماها كذبات ، و قال : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات و قال في حديث الشفاعة : و يذكر كذباته فمعناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب و إن كان حقاً في الباطن إلا هذه الكلمات .
و لما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه الصلاة و السلام من مؤاخذته بها .
و أما الحديث : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها فليس فيه خلف في القول ، إنما هو ستر مقصده ، لئلا يأخذ عدوه حذره ، و كتم وجه ذهابه بذكر السؤال عن موضع آخر و البحث عن أخباره و التعريض بذكره ، لا أنه [ 204 ] يقول : تجهزوا إلى غزوة كذا ، أو وجهتنا إلى موضع كذا خلاف مقصده ، فهذا لم يكن ، و الأول ليس فيه خبر يدخله الخلف .
فإن قلت : فما معنى قول موسى عليه السلام و قد سئل : أي الناس أعلم ؟ فقال : أنا أعلم ، فعتب الله عليه ذلك ، إذ يرد العلم إليه الحديث ، و فيه قال : بل عبد لنا بمجمع البحرين أعلم منك .
و هذا خبر قد أنبأنا الله أنه ليس كذلك .
فاعلم أنه قد وقع في هذا الحديث من بعض طرقه الصحيحة ، عن ابن عباس : هل تعلم أحداً أعلم منك ؟ .
فإذا كان جوابه على علمه فهو خبر حق و صدق لا خلف فيه و لا شبهة .
و على الطريق الآخر فمحمله على ظنه و معتقده ، كما لو صرح به ، لأن حاله في النبوة و الاصطفاء يقتضي ذلك ، فيكون إخباره بذلك أيضاً عن اعتقاده و حسب انه صدقاً لا خلف فيه .
و قد يريد بقوله : أنا أعلم بما تقتضيه وظائف النبوة من علوم التوحيد ، و أمور الشريعة ، و سياسة الأمة ، و يكون الخضر أعلم منه بأمور أخر مما لا يعلمه أحد إلا بإعلام الله من علوم غيبه ، كالقصص المذكورة في خبرهما ، فكان موسى عليه السلام أعلم على الجملة بما تقدم . و هذا أعلم على الخصوص بما أعلم .
و يدل عليه قوله تعالى : وعلمناه من لدنا علما [ سورة الكهف / 18 ، الآية : 65 ] .
و عتب الله ذلك عليه فيما قاله العلماء إنكار هذا القول عليه ، لأنه لم يرد العلم إليه ، كما قالت الملائكة : لا علم لنا إلا ما علمتنا ، أو لأنه لم يرض قوله شرعاً ، و ذلك و الله أعلم لئلا يقتدي به فيه من لم يبلغ كماله في تزكية نفسه و علو درجته من أمته ، فيهلك لما تضمنه من مدح الإنسان نفسه ، و يورثه ذلك من الكبر و العجب و التعاطي و الدعوى ، و إن نزه عن هذه الرذائل الأنبياء فغيرهم بمدرجة سبيلها و درك ليلها إلا من عصمه الله ، فالتحفظ أولى لنفسه ، و ليقتدى به ، و لذا قال صلى الله عليه و سلم تحفظاً من مثل هذا مما قد أعلم به : أنا سيد ولد آدم و لا فخر .
و هذا الحديث إحدى حجج القائلين بنبوة الخضر ، لقوله فيه : أنا أعلم من موسى . و لا يكون الولي أعلم من النبي .
و أما الأنبياء فيتفاضلون في المعارف .
و بقوله : وما فعلته عن أمري ، فدل أنه بوحي . و من قال : إنه ليس بنبي قال : يحتمل أن يكون فعله بأمر نبي آخر .
و هذا يضعف ، لأنه ما علمنا أنه كان في زمن موسى نبي غيره إلا أخاه هارون ، و ما نقل أحد من أهل الأخبار في ذلك شيئاً يعول عليه .
و إذا جعلنا [ أعلم منك ] ليس على العموم ، و إنما هو على الخصوص ، و في قضايا معينة لم يحتج إلى إثبات نبوة الخضر ، و لهذا قال بعض الشيوخ : كان موسى أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله ، و الخضر أعلم فيما رفع إليه من موسى .
و قال آخر : إنما ألجيء موسى إلى الخضر للتأديب لا للتعليم .
فصل
في عصمة الأنبياء من الفواحش و الكبائر الموبقات
و أما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال ، و لا يخرج من جملتها القول باللسان فيما عدا الخبر الذي و قع فيه الكلام و الاعتماد بالقلب فيما عدا التوحيد ، و ما قدمناه من معارفه المختصة به فأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش و الكبائر الموبقات . [205 ] و مستند الجمهور في ذلك الإجماع الذي ذكرناه .
و هو مذهب القاضي أبي بكر ، و منعها غيره بدليل العقل مع الإجماع ، و هو قول الكافة و اختاره الأستاذ أبو اسحاق .
و كذلك لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة و التقصير في التبليغ ، لأن كل ذلك تقتضي العصمة منه المعجزة ، مع الإجماع على ذلك من الكافة .
و الجمهور قائلون بأنهم معصومون من ذلك من قبل الله معتصمون باختيارهم و كسبهم إلا حسينا النجار ، فإنه قال : لا قدرة لهم على المعاصي أصلاً .
و أما الصغائر فجوزها جماعة من السلف و غيرهم على الأنبياء ، و هو مذهب أبي جعفر الطبري و غيره من الفقهاء و المحدثين و المتكلمين . و سنورد بعد هذا ما احتجوا به .
و ذهب طائفة أخرى إلى الوقف ، و قالوا : العقل لا يحيل و قوعها منهم ، و لم يأت في الش رع قاطع بأحد الوجهين .
و ذهبت طائفة أخرى من المحققيبن و المتكلمين إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر ، قالوا : لا ختلاف الناس في الصغائر و تعيينها من الكبائر و إشكال ذلك ، وقول ابن عباس و غيره : إن كل ما عصي الله به فهو كبيرة ، و أنه إنما سمي منها الصغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ، و مخالفة الباري في أمر كان يجب كونه كبيرة .
قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : لا يمكن أن يقال : إن في معاصي الله صغيرة إلا على معنى أنها تغتفر باجتناب الكبائر ، و لا يكون لها حكم مع ذلك بخلاف الكبائر إذا لم يتب منها فلا يحبطها شيء . و المشيئة في العفو عنها إلى الله تعالى ، و هو قول القاضي أبي بكر و جماعةأئمة الأشعرية و كثير من أئمة الفقهاء .
قال القاضي رحمه الله : و قال بعض أئمتنا : و لا يجب على القولين أن يختلف أنهم معصومون عن تكرار الصغائر و كثرتها ، إذ يلحقها ذلك بالكبائر ، و لا في صغيرة أدت إلى إزالة الحشمة ، و أسقطت المروءة ، و أوجبت الازراء و الخساسة ، فهذا أيضاً مما يعصم عنه الأنبياء إجماعاً ، لأن مثل هذا يحط منصبه المتسم به ، و يزري بصاحبه ، و ينفر القلوب عنه ، و الأنبياء منزهون عن ذلك بل يلحق بهذا ما كان من قبل المباح ، فأدى إلى مثله ، لخروجه بما أدى إليه عن اسم المباح إلى الحظر .
و قد ذهب بعضهم إلى عصمتهم من مواقعه المكروه قصداً .
و قد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى امتثال أفعالهم ، و اتباع آثارهم و سيرهم مطلقاً .
و جمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب مالك و الشافعي و أبي حنيفة من غير التزام قرينة ، بل مطلقاً عند بعضهم ، و إن اختلفوا حكم ذلك .
و حكى ابن خويز منذا ذو أبو الفرج ، عن مالك ، التزام ذلك وجوباً ، و هو قول الأبهري و ابن القصار و أكثر أصحابنا .
و قول أكثر أهل العراق و ابن سريج و الإصطخري ، و ابن خيران من الشافعية .
و أثر الشافعية على أن ذلك ندب .
و ذهب طائفة إلى الإباحة .
و قيد بعضهم الاتباع فيما كان من الأمور الدينية و علم به مقصد القربة .
و من قال بالإباحة في أفعاله لم يقيد . قال : فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم في أفعالهم ، إذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده [ 206 ] من القربة أو الإباحة ، أو الخطر ، أو المعصية . و لا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية ، لا سيما على من يرى من الأصوليين تقديم ا لفعل على القول إذا تعارضاً .
و نزيد هذا حجة بأن نقول : من جوز الصغائر و من نفاها عن نبينا صلى الله عليه و سلم مجمعون على أنه لا يقر على منكر من قول أو فعل ، و أنه متى رأى شيئاً فسكت عنه صلى الله عليه و سلم دل على جوازه ، فكيف يكون هذا حاله في حق غيره ، ثم يجوز و قوعه منه في نفسه .
و على هذا المأخذتجب عصمتهم من مواقعه المكروه ، كما قيل . و إذ الحظر أو الندب على الاقتداء بفعله ينافي الزجر و النهي عن فعل المكروه .

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:05 AM   #43
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




و أيضاً فقد علم من دين الصحابة قطعاً الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه و سلم كيف توجهت ، و من كل فن كالاقتداء باقواله ، فقد نبذوا خواتيمهم حين نبذ خاتمه ، و خلعوا نعالهم حين خلع ، و احتجاجهم برؤية ابن عمر إياه جالساً لقضاء حاجته مستقبلاً بيت المقدس .
و احتج غير واحد منهم في غير شيء مما بابه العبادة أو العادةبقوله : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعله ، و قال : هلا خبرتيها أني أقبل و أنا صائم ! و قالت عائشة محتجة : كنت أفعله أنا و رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و غضب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أخبر بمثل هذا عنه ، و قال : يحل الله لرسوله ما يشاء : إن ي لأخشاكم الله و أعلمكم بحدوده .
و الآثار في هذا أكثر من أن نحيط عليها ، لكنه يعلم من مجموعها على القطع اتباعهم أفعاله و اقتداؤهم بها . و لو جوزوا عليه المخالفة في شيء منها لما اتسق هذا ، و لنقل عنهم و ظهر بحثهم عن ذلك ، و لما أنكر صلى الله عليه و سلم على الآخر قوله و اعتذاره بما ذكرناه .
و أما المباحات فجائز وقوعها منهم ، إذ ليس فيها قدح ، بل هي مأذون فيها ، و أيديهم كأيدي غيرهم مسلطة عليها ،إلا أنهم بما خصوا به من رفيع المنزلة ، و شرحت له صدورهم من أنوار المعرفة ، و اصطفوا به من تعلق هممهم با الله و الدار الآخرة لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات مما يتقوون به على سلوك طريقهم ، و صلاح دينهم ، و ضرورة دنياهم ، و ما أخذ على هذه السبيل التحق طاعة ، و صار قربة ،كما بينا منه أول الكتاب طرفاً في نبينا صلى الله عليه و سلم ، فبان لك عظيم فضل لله على نبينا و على سائر أنبيائه عليهم السلام بأن جعل أفعالهم قربات و طاعات بعيدة عن وجه المخالفة و رسم المعصية .



فصل
في عصمة الأنبياء قبل النبوة
و قد اختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة ، فمنعها قوم ، و جوزها آخرون . و الصحيح أن شاء الله تنزيههم من كل عيب ، و عصمتهم من كل ما يوجب الريب ، فكيف و المسألة تصورها كالممتنع ، فإن المعاصي و النواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع .
و قد اختلف الناس في حال نبينا صلى الله عليه و سلم قبل أن يوحى إليه ، قل كان متبعاً لشرع [207 ] قبله أم لا ؟ فقال جماعة : لم يكن متبعاً لشيء ، و هذا قول الجمهور ، فالمعاصي على هذا القول غير موجودة و لا معتبرة في حقه حينئذ ، إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأوامر و النواهي و تقرر الشريعة .
ثم اختلف حجج القائلين بهذه المقالة عليها ، فذهب سيف السنة ، و مقتدى فرق الأمة القاضي أبو بكر إلى أن طريق العلم بذلك النقل و موارد الخبر من طريق السمع ، و حجته أنه لو كان ذلك لنقل ، و لما أمكن كتمه و ستره في العادة ، إذ كان من مهم أمره ، و أولى ما اهتبل به سيرته ، و لفخر به أهل تلك الشريعة ، و لا حتجوا به عليه ، و لم يؤثر شيء من ذلك جملة .
و ذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلاً ، قالوا : لأنه يبعد أن يكون متبوعاً من عرف تابعاً ، و بنوا هذا على التحسين و التقبيح ، و هي طريقة غير سديدة ، و استناد ذلك إلى النقل كما تقدم للقاضي أبي بكر أولى و أظهر .
و قالت فرقة أخرى بالوقف في أمره صلى الله عليه و سلم و ترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك ، إذ لم يحل أحد الوجهين منها العقل ، و لا استبان في أحدهما طريق النقل ، و هو مذهب أبي المعالي .
و قالت فرقة ثالثة : إنه كان عاملاً بشرع من قبله ، ثم اختلفوا : هل يتعين ذلك الشرع أم لا ؟ فوقف بعضهم عن تعيينه ، و أحجم . و جسر بعضهم على التعيين و صمم . ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع ، فقيل نوح ، و قيل إبراهيم ، و قيل موسى ، و قيل عيسى صلوات الله عليهم . فهذه جملة المذاهب في هذه المسألة .
و الأظهر فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر ، و أبعدها مذاهب المعينين ، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل كما قدمنا ، و لم يخف جملة ، و لا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء ، فلزمت شريعته من جاء بعدها ، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى ، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه و سلم ، و لا حجة أيضاً للآخرة في قوله : أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ، و لا للآخرين في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، فتحمل هذه الآية على اتباع في التوحيد ، كقوله تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ سورة الأنعام / 6 ، الآية : 90 ] .
و قد سمى الله تعالى فيهم من لم يبعث ، و لم تكن له شريعة تخصه ، كيوسف بن يعقوب على قول من يقول : إنه ليس برسول .
و قد سمى الله تعالى جماعة منهم في هذه الآية شرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها ، فدل أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد و عبادة الله تعالى .
و بعد هذا فهل يلزم من قال بمنع الاتباع هذا القول في سائر الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه و سلم ، أو يخالفون نبيهم ؟ .
أما من منع الاتباع عقلاً فيطرد أصله في كل رسول بلا مرية . و أما من مال إلى النقل فأينما تصور له و تقرر اتبعه .
و من قال بالوقف فعلى أصله . و من قال بوجوب الاتباع لمن قبله فيلتزمه بمساق حجته في كل نبي .
فصل
في الكلام على الأحاديث المذكور فيها السهو منه صلى الله عليه و سلم
في الكلام على الأحاديث [ 209 ] المذكور فيها السهو منه صلى الله عليه و سلم .
فقد قدمنا في الفصول قبل هذا ما يجوز فيه عليه السهو صلى الله عليه و سلم و ما يمتنع ، و أحلناه في الأخبار جملة ، و في الأقوال الدينية قطعاً ، و أجزنا وقوعه في الأفعال الدينية على الوجه الذي رتبناه ، و أشرنا إلى ما ورد في ذلك ، و نحن نبسط القول فيه و نقول : الصحيح من الأحاديث الواردة في سهوه صلى الله عليه و سلم في الصلاة ثلاثة أحاديث :
أولها : حديث ذي اليدين في السلام من اثنتين .
الثاني : حديث ابن بحينة في القيام من اثنتين .
الثالث : حديث ابن مسعود رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى الظهر خمساً .
و هذه الأحاديث مبنية على السهو في الفعل الذي قررناه ، و حكمة الله فيه ليستن به ، إذ البلاغ بالفعل أجلى منه بالقول ، و أرفع للاحتمال ، و شرطه ألا يقر على السهو ، بل يشعر به ليرتفع الالتباس ، و تظهر فائدة الحكمة فيه كما قدمناه ، فإن النسيان و السهو في الفعل في حقه صلى الله عليه و سلم غير مضاد للمعجزة ، و لا قادح في التصديق ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني .
و قال صلى الله عليه و سلم : رحم الله فلاناً ، لقد أذكرني كذا و كذا آية كنت أسقطهن و يروى : أنسيهن .
و قال صلى الله عليه و سلم : إني لأنسى ، أو أنسى ، لأسن .
قيل : هذا اللفظ شك من الراوي . و قد روى : إني لا أنسى ، و لكن أنسى لأسن .
و ذهب ابن نافع ، و عيسى بن دينار أنه ليس بشك ، فإن معناه التقسيم ، أي أنسى أنا ، أو ينسيني الله .
قال القاضي أبو الوليد الباجي : يحتمل ما قالاه أن يريد أني أنسى في اليقظة ، و أنسى في النوم ، أو أنسى على سبيل عادة البشر من الذهول عن الشيء و السهو ، و أنسى مع إقبالي عليه و تفرغي له ، فأضاف أحد النسيانين إلى نفسه ، إذ كان له بعض السبب فيه ، و نفى الآخر عن نفسه ، إذ هو فيه كالمضطر .
و ذهبت طائفة من أصحاب المعاني و الكلام على الحديث إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يسهو في الصلاة و لا ينسى ، لأن النسيان ذهول و غفلة و آفة ، قال : و النبي صلى الله عليه و سلم منزه عنها ، و السهو شغل ، فكان النبي صلى الله عليه و سلم يسهو في صلاته ، و يشغله عن حركات ال صلاة ما في الصلاة ، شغلاً بها لا غفلة عنها .
و احتج بقوله في الرواية الأخرى : إني لا أنسى .
و ذهبت طائفة إلى منع هذا كله عنه ، و قالوا : إن سهوه عليه السلام كان عمداً و قصداً ليسن .
و هذا قول مرغوب عنه ، متناقض المقاصد ، لا يحلى منه بطائل ، لأنه كيف يكون معتمداً ساهياً في حال . و لا حجة لهم في قولهم : إنه أمر بتعمد صورة النسيان ليسن ، لقوله : إني لأنسى أو أنسى . و قد أثبت أحد الوصفين ، و نفى مناقضة التعمد و القصد ، و قال : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، [ فإذا نسيت فذكروني ] .
و قد مال إلى هذا عظيم من المحققين من أئمتنا ، و هو أبو المظفر الإسفرايني ، و لم يرتضه غيره منهم ، و لا أرتضيه ، و لا حجة لهاتين الطائفتين في قوله : إني لا أنسى [ 210 ] ، و لكن أنسى ، إذ ليس فيه نفي حكم النسيان بالجملة ، و إنما فيه نفي لفظه و كراهة لقبه ، كقوله : بئس ما لأحدكم أن يقول : نسيت آية كذا ، و لكنه نسي ، أو نفي الغفلة و قلة الاهتمام بأمر الصلاة عن قلبه ، لكن شغل بها عنها ، و نسي بعضها ببعضها ، كما ترك الصلاة يوم الخندق حتى خرج وقتها ، و شغل بالتحرز من العدو عنها ، فشغل بطاعة عن طاعة .
و قي ل : إن الذي ترك يوم الخندق أربع صلوات : الظهر ، و العصر ، و المغرب ، و العشاء ، و به احتج من ذهب إلى جواز تأخير الصلاة في الخوف ، إذا لم يتمكن من أدائها إلى وقت الأمن ، و هو مذهب الشاميين .
و الصحيح أن حكم الصلاة الخوف كان بعد هذا ، فهو ناسخ له .
فإن قلت : فما تقول في نومه صلى الله عليه و سلم عن الصلاة يوم الوادي ، و قد قال : إن عيني تنامان و لا ينام قلبي .
فاعلم أن للعلماء في ذلك أجوبة ، منها : أن المراد بأن هذا حكم قلبه عند نومه و عينيه في غالب الأوقات ، و قد يندر منه غير ذلك ، كما يندر منة غيره خلاف عادته .
و يصحح هذا التأويل قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث نفسه : إن الله قبض أرواحنا .
و قول بلال فيه : ما ألقيت علي نومه مثلها قط ، و لكن مثل هذا إنما يكون منه لأمر يريده الله من إثبات حكم ، و تأسيس سنة ، و إظهار شرع ، كما قال في الحديث الآخر : لو شاء الله لأيقظنا ، و لكن أراد أن يكون لمن بعدكم .
الثاني أن قلبه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث فيه ، لما روي أنه كان محروساً ، و أنه كان ينام حتى ينفخ ، و حتى يسمع غطيطه ثم يصلي و لا يتوصأ .
و حديث ابن عباس المذكور فيه و ضوءه عند قيامه من النوم ، فيه نومه مع أهله ، فلا يمكن الاحتجاج به على و ضوئه بمجرد النوم إذ لعل ذلك لملامسته الأهل أو لحدث آخر ، فكيف و في آخر الحديث نفسه : ثم نام حتى سمعت غطيطه ، ثم أقيمت الصلاة فصلى و لم يتوضأ .
و قيل : لا ينام قلبه من أجل أنه يوحى إليه في النوم ، و ليس في قصة الوادي إلا نوم عينه عن رؤية الشمس . و ليس هذا من فعل القلب ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : إن الله قبض أرواحنا و لو شاء لردها إلينا في حين غير هذا .
فإن قيل : فلولا عادته من استغراق النوم لما قال لبلال : أكلا لنا الصبح .
فقيل في الجواب : إنه كان من شأنه صلى الله عليه و سلم التفليس بالصبح ، و مراعاة أول الفجر لا تصح ممن نامت عينه ، إذ هو ظاهر يدرك بالجوارح ، فوكل بلالاً بمراعاة أوله ليعلمه بذلك ، كما لو شغل بشغل غير النوم عن مراعاته .
فإن قيل : فما معنى نهيه صلى الله عليه و سلم عن القول : نسيت ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : إني أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني . و لقد أذكرني كذا و كذا آية كنت أنسيتها .
فاعلن أكرمك الله أنه لا تعارض في هذه الألفاظ ، أما نهيه عن أن يقال ن سيت آية كذا فمحمول على ما نسخ حفظه من القرآن ، أي إن الغفلة في هذا لم تكن منه ، و لكن الله تعالى اضطره إليها ليمحو ما يشاء و يثبت . و ما كان من سهو أو غفلة من [ 211 ] قبله تذكرها صلح أن يقال فيه : أنسى .
و قد قيل : إن هذه منه صلى الله عليه و سلم على طريق الاستحباب أن يضيف الفعل إلى خالقه ، و الآخر على طريق الجواز لاكتساب العبد فيه ، و إسقاطه صلى الله عليه و سلم لما أسقط من هذه الآيات جائز عليه بعد بلاغ ما أمر ببلاغه ، و توصيله إلى عباده ، ثم يستذكرها من أمته ، أو من قبل نفسه ، إلا ما قضى الله نسخه و محوه من القلوب و ترك استذكاره .
و قد يجوز أن ينسى النبي صلى الله عليه و سلم ما هذا سبيله كرة ، و يجوز أن ينسيه منه قبل البلاغ ما لا يغير نظماً ، و لا يخلط حكماً ، مما لا يدخل خللاً في الخبر ، ثم يذكره إياه و يستحيل دوام نسيانه له ، لحفظ الله كتابه ، و تكليفه بلاغه .
فصل
في الرد على من أجاز عليهم الصغائر
اعلم أن المجوزين للصغائر على الأنبياء من الفقهاء و المحدثين و من شايعهم على ذلك من المتكلمين احتجوا على ذلك بظواهر كثيرة من القرآن و الحديث إن التزموا ظواهرها أفضت بهم إلى تجويز الكبائر و خرق الإجماع ، و هو ما لا يقول به مسلم ، فكيف و كل ما احتجوا به مما اختلف المفسرون في معناه ، و تقابلت الاحتمالات في مقتضاه ، و جاءت أقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموه من ذلك ، فإذا لم يكن مذهبهم إجماعاً ، و كان الخلاف فيما احتجوا به قديماً ، و قامت الدلالة على خطأ قولهم ، و صحة غيره ، وجب تركه ، و المصير إلى ما صح .
و ها نحن نأخذ في النظر فيها إن شاء الله .
فمن ذلك قوله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم :
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ سورة الفتح / 48 ، الآية : 2 ] .
و قوله : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات [ سورة محمد / 47 ، الآية : 19 ] .
و قوله : ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك [ سورة الشرح / 94 ، الآية : 2 ، 3 ] .
و قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 43 ] .
و قوله : لولا كتاب من ا لله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 68 ] .
و قوله : عبس وتولى * أن جاءه الأعمى الآية .
و ما قص من قصص غيره من الأنبياء ، كقوله : وعصى آدم ربه فغوى [ سورة طه / 20 ، الآية : 121 ] .
و قوله : فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون [ سورة الأعراف / 7 الآية : 190 ] .
و قوله : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 23 ] .
و قوله عن يونس : سبحانك إني كنت من الظالمين [ سورة الأنبياء / 21 ، الآية : 87 ] .
و ما ذكر من قصته و قصة داود ، و قوله : وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ سورة ص / 38 ، الآية : 24 ، 25 ] .
و قوله : ولقد همت به وهم بها ، و ما قص من قصته مع إخوته .
و قوله عن موسى : فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان [ سورة القصص / 28 ، الآية : 15 ] .
و قول النبي صلى الله عليه و سلم في دعائه : اغفر لي ما قدمت و ما أخرت ، و ما أسررت وما أعلنت و نحوه م ن أدعيته صلى الله عليه و سلم .
و ذكر الأنبياء في الموقف ذنوبهم في حديث الشفاعة .
و قوله : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله .
و في حديث أبي هريرة : إني لأستغفر الله و أتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة . و قوله تعالى عن نوح : وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين .
و قد كان [ 212 ] قال الله له : ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ سورة هود / 11 ، الآية : 37 ] .
و قال عن إبراهيم : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين [ سورة الشعراء / 26 ، الآية : 82 ] . و قوله عن موسى : تبت إليك [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 143 ] .
و قوله : ولقد فتنا سليمان ... إلى ما أشبه هذه الظواهر .
قال القاضي رحمه الله : فأما احتجاجهم بقوله : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر : فهذا قد اختلف فيه المفسرون ، فقيل : المراد ما كان قبل النبوة و بعدها .
و قيل : المراد ما وقع لك من ذنب وما لم يقع أعلمه أنه مغفور له .
و قيل : المتقدم ما كان قبل النبوة ، و المتأخر عصمتك بعدها ، حكاه أحمد بن نصر .
و قيل : المراد بذلك أمته .
و قيل : المراد ما كان عن سهو و غفلة ، و تأويل ، حكاه الطبري ، و اختاره القشيري .
و قيل : ما تقدم لأبيك آدم ، و ما تأخر من ذنوب أمتك ، حكاه السمرقندي و السلمي عن ابن عطاء .
و بمثله و الذي قبله يتأول قوله : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ،
قال مكي : مخاطبة النبي صلى الله عليه و سلم ها هنا هي مخاطبة لأمته .
و قيل : إن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر أن يقول : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم سر بذلك الكفار ، فأنزل الله تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الآية ، و بمآل المؤمنين في الآية الأخرى بعدها ، قاله ابن عباس ، فمقصد الآية : إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب إن لو كان . قال بعضهم : المغفرة ها هنا تبرئة من العيوب .
و أما قوله : ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك ، فقيل : ما سلف من ذنبك قبل النبوة ، و هو قول ابن زيد و الحسن ، و معنى قول قتادة .
و قيل : معناه أنه حفظ قبل نبوته منها ، و عصم ، و لولا ذلك لأثقلت ظهره ، حكى معناه السمرقندي .
و قيل : المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى بلغها ، حكاه الماوردي ، و السلمي .
و قيل : حططنا عنك ثقل أيام الجاهلية ، حكاه مكي .
و قيل : ثقل شغل سرك و حيرتك و طلب شريعتك حتى شرعنا ذلك لك ، حكى معناه القشيري .
و قيل المعنى : خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت ، و حفظ عليك .
و معنى أنقض ظهرك ، أي كاد ينقضه ، فيكون المعنى على من جعل ذلك لما قبل النبوة اهتمام النبي صلى الله عليه و سلم بأمور فعلها قبل نبوته ، و حرمت عليه بعد النبوة ، فعدها أوزار ، و ثقلت عليه ، و أشفق منها .
أو يكون الوضع عصمة الله له و كفايته من ذنوب لو كانت لأنقضت ظهره .
أو يكون من ثقل الرسالة ، أو ما ثقل عليه و شغل قلبه من أمور الجاهلية ، و إعلام الله تعالى له بحفظ ما استحفظه من وحيه .
و أما قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم فأمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه و سلم من الله تعالى نهي فيعد معصية ، و لا عده الله تعالى عليه معصية ، بل لم يعده أهل العلم معاتبة . و غلطوا من ذهب إلى ذلك ، قال نفطويه [ 213 ] : و قد حاشاه الله تعالى من ذلك ، بل كان مخيراً في أمرين ، قالوا : و قد كان له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل عليه فيه وحي ، فكيف و قد قال الله تعالى : فأذن لمن شئت منهم . فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا ، و أنه لا حرج عليه فيما فعل ، و ليس عفا هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : عفا الله لكم عن صدقة الخيل و الرقيق . و لم تجب عليهم قط ، أي لم يلزمكم ذلك .
و نحوه للقشيري ، قال : و إنما يقول العفو : لا يكون إلا عن ذنب من لم يعرف كلام العرب ، و معنى عفا الله عنك أي لم يلزمك ذنباً .
قال الداودي : روي أنها تكرمة .
و قال مكي : هو استفتاح كلام ، مثل أصلحك الله و أعزك .
و حكى السمرقندي أن معناه عفاك الله .
و أما قوله في أسارى بدر : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فليس فيه إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه و سلم ، بل فيه بيان ما خص به وفضل من بين سائر الأنبياء ، فكأنه قال : ما كان هذا لنبي غيرك ، كما قال صلى الله عليه و سلم : أحلت لي الغنائم ، و لم تحل لنبي قبلي .
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : تريدون عرض الدني ا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 67] .
قيل : المعنى بالخطاب لمن أراد ذلك منهم ، و تجرد غرضه لعرض الدنيا وحده ، و الاستكثار منها ، و ليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه و سلم ، و لا عليه أصحابه ، بل قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر ، و اشتغل الناس بالسلب و جمع الغنائم عن القتال ، حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدو .
ثم قال تعالى : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ، فاختلف المفسرون في معنى الآية ، فقيل : معناها لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحداً إلا بعد النهي لعذبتكم .
فهذا ينفي أن يكون أمر الأسرى معصية .
و قيل : المعنى لو لا إيمانكم بالقرآن ، و هو الكتاب السابق فاستوجبتم به الصفح
لعوقبتم على الغنائم .
و يزاد هذا القول تفسيراً و بياناً بأن يقال : لو لا ما كنتم مؤمنين بالقرآن ، و كنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم ، كما عوقب من تعدى .
و قيل : لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعوقبتم .
فهذا كله ينفي الذنب و المعصية ، لأن من فعل ما أحل له لم يعص ، قال الله تعالى : فكلوا مما غنمتم حلالا طي با [ سورة الأنفال / 8 ، الآية : 69 ] .
و قيل : بل كان صلى الله عليه و سلم قد خير في ذلك ، و قد روي عن علي رضي الله عنه ، قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر ، فقال : خير أصحابك في الأساري ، إن شاءوا القتل ، و إن شاءوا الفداء ، على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم .
فقالوا : الفداء و يقتل منا .
و هذا دليل على صحة ما قلناه ، و أنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه ، و لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين مما كان الأصلح غيره من الإثخان و القتل ، فعوتبوا على ذلك ، و بين لهم ضعف اختيارهم و تصويب اختيار غيرهم ،، و كلهم غير عصاة ولا مذنبين ، و إلى نحو هذا أشار الطبري .
و قوله صلى الله عليه و سلم في هذه القضية : لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر . [ 412 ] إشارة إلى هذا من تصويب رأيه و رأي من أخذ بمأخذه ، في إعزاز الدين و إظهار كلمته ، و إبادة عدوه ، و أن هذه القضية لو استوجبت عذاباً نجا منه عمر و مثله ، و عين عمر لأنه أول من أشار بقتلهم ، و لكن الله لم يقدر عليهم في ذلك عذاباً لحله لهم فيما سبق .
و قال الداودي : و الخبر بهذا لا يثبت ، و لو ثبت لما جاز أن يظن أن النبي صلى الله عليه و سلم حكم لما لا نص فيه و لا دليل من نص ، و لا جعل الأمر فيه إليه ، و قد نزهه الله تعالى عن ذلك .
و قال القاضي بكر بن العلاء : أخبر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن تأويله وافق ما كتبه له من إحلال الغنائم و الفداء ، و قد كان قبل هذا فادوا في سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي بالحكم بن كيسان و صاحبه ، فما عتب الله ذلك عليهم ، و ذلك قبل بدر بأزيد من عام .
فهذا كله يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه و سلم في شأن الأسرى كان على تأويل و بصيرة ، و على ما تقدم قبل مثله ، فلم ينكره الله تعالى عليهم ، لكن الله تعالى أراد لعظم أمر بدر و كثرة أسراها ، و الله أعلم إظهار نعمته ، و تأكيد منته ، بتعريفهم ما كتبه في اللوح المحفوظ من حل ذلك لهم ، لا على وجه عتاب و إنكار و تذبيب . هذا معنى كلامه .
و أما قوله : عبس وتولى * أن جاءه الأعمى [ سورة عبس / 80 ، الآية : 1 ] .
فليس له إثبات ذنب له صلى الله عليه و سلم ، بل إعلام الله أن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكى ، و ان الصواب و الأولى لو كشف لك حال الرجلين الإقبال على الأعمى .
و فعل النبي صلى الله عليه و سلم لما فعل ، و تصديه لذلك الكافر ، كان طاعة لله و تبليغاً عنه و استئلافاً له ، كما شرعه الله له ، لا معصية ، و لا مخالفة له .
و ما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين و توهين أمر الكافر عنده و الإشارة إلى الإعراض عنه ، بقوله : وما عليك أن لا يزكى [ سورة عبس / 80 ، الآية : 3 ] .
و قيل : أراد ب [ عبس ] ، و [ تولى ] الكافر الذي كان مع النبي صلى الله عليه و سلم ، قاله أبو تمام .
و أما قصة آدم عليه السلام ، و قوله تعالى : فأكلا منها بعد قوله : ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . و قوله ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، و تصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ، أي جهل .
و قيل أخطأ ، فإن الله تعالى قد أخبر بعذره بقوله : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ، قال ابن زيد : نسي عداوة إبليس له ، و ما عهد الله إليه من ذلك بقوله : إن هذا عدو لك ولزوجك الآية .
و قيل : نسي ذلك بما أظهر لهما .
و قال ابن عباس : إنما سمي الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسي .
و قيل : لم يقصد المخالفة است حلالاً لها ، و لكنهما اغتراً بحلف إبليس لهما : إني لكما لمن الناصحين ، و توهما أن أحداً لا يحلف بالله حانثاً .
و قد روي عذر آدم بمثل هذا في بعض الآثار .
و قال ابن جبير : حلف بالله لهما حتى غرهما ، و المؤمن يخدع .
و قد قيل : نسي ، و لو ينو المخالفة ، فلذلك قال : ولم نجد له عزما ، و أي قصداً [ 215 ] للمخالفة .
و أكثر المفسرين على أن العزم هنا الجزم و الصبر .
و قيل : كان عند أكله سكران ، و هذا فيه ضعف ، لأن الله تعالى وصف خمر الجنة أنها لا تسكر ، فإذا كان ناسياً لم تكن معصية ، و كذلك إن كان ملبساً عليه غالطاً ، إذ الاتفاق على خروج الناسي و الساهي عن حكم التكليف .
قال الشيخ أبو بكر بن فورك و غيره : إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوة ، و دليل ذلك قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ، فذكر أن الاجتباء و الهداية كانا بعد العصيان .
و قيل : بل أكلها متأولاً ، و هو يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها ، لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس ، و لهذا قيل : إنما كانت التوبة من ترك التحفظ ، لا من المخالفة .
و قيل : تأول أن الله لم ينهه عنه ا نهي تحريم .
فإن قيل : فعلى كل حال فقد قال الله تعالى : وعصى آدم ربه ، و قال : فتاب عليه وهدى . و قوله في حديث الشفاعة : و يذكر ذنبه ، و قال : إني نهيت عن أكل الشجرة فعصيت ، فسيأتي الجواب عنه و عن أشباهه مجملاً آخر الفصل إن شاء الله .
و أما قصة يونس فقد مضى الكلام على بعضها آنفاً ، و ليس في قصة يونس نص على ذنب ، و إنما فيها : أبق و ذهب مغاضباً و قد تكلمنا عليه .
و قيل : إنما نقم الله عليه خروجه عن قومه فاراً من نزول العذاب .
و قيل : بل لما وعدهم العذاب ثم عفا الله عنهم قال : و الله لا ألقاهم بوجه كذاب أبداً .
و قيل : بل كانوا يقتلون من كذب فخاف ذلك .
و قيل : ضعف عن حمل أعباء الرسالة . و قد يقدم الكلام أنه لم يكذبهم .
و هذا كله ليس فيه نص على معصية إلا على قول مرغوب عنه .
و قوله : إذ أبق إلى الفلك المشحون قال المفسرون تباعد .
و أما قوله : إني كنت من الظالمين ، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه ، فهذا اعتراف منه عند بعضهم بذنبه ، فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه ، أو لضعفه عماحمله ، أو لدعائه بالعذاب على قومه . و قد دعا نوح بهلاك قومه فلم يؤاخذ .
و ق ال الواسطي في معناه : نزه ربه عن الظلم ، و أضاف الظلم إلى نفسه اعترافاً و استحقاقاً . و مثل هذا قول آدم و حواء : ربنا ظلمنا أنفسنا ، إذ كانا السبب في وضعهما غير الموضع الذي أنزلا فيه ، و اخراجهما من الجنة ، و إنزالهما إلى الأرض .
و أما قصة داود عليه السلام فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيه الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا و غيروا ، و نقله بعض المفسرين . و لم ينص الله على شيء من ذلك ، و لا ورد في حديث صحيح . و الذي نص عليه قوله : وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ سورة ص / 38 ، الآية : 24 ، 25 ]


حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:05 AM   #44
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




و قوله فيه : أواب .
فمعنى فتناه : اختبرناه . و أواب : قال قتادة : مطيع .
و هذا التفسير أولى .
و قال ابن عباس ، و ابن مسعود : ما زاد داود على أن قال للرجل : انزل لي عن امرأتك و أكفلنيها ، فعاتبه الله على ذلك ، و نبهه عليه ، و أنكر عليه [ 216 ] شغله بالدنيا ، و هذا الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره .
و قيل : خطبها على خطبته .
و قيل : بل أحب بقلبه أن تستشهد .
و حكى السمرقندي أن ذنبه الذي اس تغفر منه قوله لأحد الخصمين : لقد ظلمك ، فظلمه بقول خصمه .
و قيل : بل لما خشي على نفسه ، و ظن من الفتنة بما بسط له من الملك و الدنيا .
و إلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك ذهب أحمد بن نصر ، و أبو تمام ، و غيرهما من المحققين .
و قال الداودي : ليس في قصة داود و أوريا خبر يثبت ، و لا يظن بنبي محبة قتل مسلم .
[ و قيل : إن الخصمين اللذين اختصما إليه رجلان في نعاج غنم ، على ظاهر الآية ] .
و أما قصة يوسف و إخوته فليس على يوسف فيها تعقب ، و أما إخوته فلم تثبت نبوتهم فليزم الكلام على أفعالهم . و ذكر الأسباط و عدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء ليس صريحاً في كونهم من أهل الأنبياء .
قال المفسرون : يريد من نبئ من أنباء الأسباط .
و قد قيل : إنهم كانوا حين فعلوا بيوسف ما فعلوه صغار الأسنان ، و لهذا لم يميزوا يوسف حين اجتمعوا به ، و لهذا قالوا : أرسله معنا غداً نرتع و نلعب ، و إن ثبتت لهم نبوة فبعد هذا ، و الله أعلم .
و أما قول الله تعالى فيه : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه فعلى طريق كثير من الفقهاء المحدثين أن هم النفس لا يؤاخذ به ، و ليس سيئة ، لقوله صلى الله عليه و سلم عن ربه : [ إذا هم عبدي بسيئة فلم يعلمها كتبت له حسنة ] ، فلا معصية في همه إذاً .
و أما على مذهب المحققين من الفقهاء و المتكلمين فإن الهم إذا وطنت عليه النفس سيئة . و أما ما لم توطن عليه النفس من همومها و خواطرها فهو المعفو عنه .
هذا هو الحق ، فيكون إن شاء الله هم يوسف من هذا ، و يكون قوله : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم [ سورة يوسف / 1 ، الآية : 53 ] .
ي ما أبرئها من هذا الهم ، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع و الإعتراف بمخالفة النفس لما زكي قبل و برىء ، فكيف و قدحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة أن يوسف لم يهم ، و ان الكلام فيه تقديم و تأخير ، أي : و لقد همت به ، و لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، و قد قال الله تعالى عن المرأة : لقد راودته عن نفسه فاستعصم . و قال تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء . قال تعالى : وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي الآية .
قيل في ربي الله تعالى . و قيل : الملك .
و قيل : هم بها ، أي بزجرها و وعظها
و قيل هم بها ، أي غمها امتناعه عنها .
و قي ل هم بها : نظر إليها .
و قيل هم بضربها و دفعها .
و قيل هذا كله كان قبل نبوته .
و قد ذكر بعضهم : ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله ، فألقى عليه هيبة النبوة ، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه .
و أما خبر موسى صلى الله عليه و سلم مع قتيله الذي و كزه فقد نص الله تعالى أنه من عدوه ، قال : كان من القبط الذين على دين فرعون .
و دليل السورة في هذا كله أنه قبل نبوة موسى .
و قال قتادة : وكزه بالعصا ، و لم يتعمد قتله ، فعلى هذا لا معصية في ذلك .
و قوله : هذا من عمل الشيطان . و قوله : [ 217 ] ظلمت نفسي فاغفر لي قال ابن جريح : قال ذلك من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر .
و قال النقاش : لم يقتله عن عمد مريداً للقتل ، و إنما وكزه و كزة يريد بها دفع ظلمة ، قال : و قد قيل : إن هذا كان قبل النبوة ، و هو مقتضى التلاوة .
و قوله تعالى في قصته : : وفتناك فتونا ، أي ابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء . قبل في هذه القصة و ما جرى له مع فرعون . و قيل : إلقاؤه في التابوت و اليم ، و غيرذلك .
و قيل : معناه أخلصناك إخلاصاً ، قاله ابن جبير و مجاهد ، من قولهم : فتنت الفضة في النار إذا خلصتها . و أصل الفتنة معنى الاختبار ، و إظهار ما بطن ، إلا أنه استعمل في عرف الشرع في اختبار أدى إلى ما يكره .
و كذلك ما روي في الخبر الصحيح ، من ان ملك الموت جاءه فلطم عينه ففقأها . . .
ألحديث .. ليس فيه ما يحكم به على موسى بالتعدي و فعل ما لايجب له ، إذ هو ظاهر الأمر ، بين الوجه ، جائز الفعل ، لأن موسى دافع عن نفسه من أتاه لإتلافها ، و قد تصور به في صورة آدمي ، و لا يمكن أنه علم حينئذ أنه ملك الموت ، فدافعه عن نفسه مدافعة أدت إلى ذهاب عين تلك الصور التي تصور له فيها الملك امتحاناً من الله ، فلما جاءه بعد ، و أعلمه الله تعالى أنه رسوله إليه استسلم .
و للمتقدمين و المتأخرين على هذا الحديث أجوبةهذا أسدها عندي ، و هو تأويل شيخنا الإمام أبي عبد الله المازري .
و قد تأوله قديماً ابن عائشة و غيره على صكه و لطمه بالحجة ، و فقء عين حجته ، و هو كلام مستعمل في هذا الباب في اللغة معروف .
و أما قصة سليمان و ما حكى فيها أهل التفاسير من ذنبه و قوله : ولقد فتنا سليمان ، فمعناه ابتلينا ، و ابتلاؤه : ما حكي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال : لأطوفن الليلة على مائة امراة أو تسع وتسعين كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل . فلم تحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . قال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله .
قال أصحاب المعاني : و الشق هو الجسد الذي ألقى على كرسيه حين عرض عليه ، وهي عقوبته و محنته .
و قيل بل مات فألقي على كرسيه ميتاً .
و قيل : ذنبه حرصه على ذلك و تمنيه .
و قيل : لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص ، و غلب عليه من التمني .
و قيل : عقوبته أن سلب ملكه ، و ذنبه أن احب بقلبه أن يكون الحق لأختانه على خصمهم .
و قيل : أوخذ بذنب قارفه بعض نسائه . و لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبه الشيطان به ، و تسلطه على ملكه تعالى و تصرفه في في أمته بالجور في حكمه ، لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا ، و قد عصم الانبياء من مثله [218 ] .
و إن سئل : لم لم يقل سليمان في القصة المذكورة : إن شاء الله فعنه أجوبة :
أحدها : ما روي في الحديث الصحيح أنه نسى أن يقولها ، و ذلك لينفذ مراد الله تعالى .
و الثاني : أنه لم يسمع صاحبه و شغل عنه .
و قوله : وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي . لم يفعل هذا سليمان غيره على الدنيا و لا نفاسة بها ، و لكن مقصده في ذلك على ما ذكره المفسرون ألا يسلط عليه أحد كما سلط عليه الشيطان الذي سلبه إياه مدة امتحانه على قول من قال ذلك .
و قيل : بل أراد أن يكون له من الله فضيلة و خاصة يختص بها كاختصاص غيره من أنبياء الله و رسله بخواص منه .
و قيل : ليكون ذلك دليلاً و حجة على نبوته ، كالإنة الحديد لأبيه ، و إحياء الموتى لعيسى ، و اختصاص محمد صلى الله عليه و سلم بالشفاعة ، و نحو هذا .
و أما قصة نوح عليه السلام فظاهرة العذر ، و إنه أخذ فيها بالتأويل و ظاهر اللفظ ، لقوله تعالى : [ و أهلك ] ، فطلب مقتضى هذا اللفظ ، و أراد علم ما طوي عليه من ذلك ، لا أنه شك في وعد الله تعالى ، فتبين الله عليه أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم لكفره و عمله الذي هو غير صالح ، و قد أعلمه أنه مغرق الذين ظلموا ، و نهاه عن مخاطبته فيهم ، فووخذ بهذا التأويل ، و عتب عليه ، و أشفق هو من إقدامه على ربه لسؤاله ما لم يؤذن له في السؤال فيه ، و كان نوح فيما حكاه النقاش لا يعلم بكفر ابنه .
و قيل في الآية غير هذا ، و كل هذا لا يقضي على نوح بمعصية سوى ما ذكرنا من تأويله و إقدامه بالسؤال فيما لم يؤذن له فيه ، و لا نهى عنه .
و ما روي في الصحيح من أن نبياً قرصته نملة فحرق قرية النمل ، فأوحى الله إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح ... فليس في هذا الحديث أن هذا الذي أتى معصية ، بل فعل ما رآه مصلحة و صواباً بقتل من يؤذي جنسه ، و يمنع المنفعة مما أباح الله .
ألا ترى أن هذا النبي كان نازلاً تحت الشجرة ، فلما آذته النملة تحول برجله عنها مخافة تكرار الأذى عليه و ليس فيما أوحى الله إليه ما يوجب معصية ، بل ندبه إلى احتمال الصبر و ترك التشفي ، كما قال تعالى : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ، إذا ظاهر فعله إنما كان لأجل أنها آذته هو في خاصته ، فكان انتقاماً لنفسه ، و قطع مضرة يتوقعها من بقية النمل هناك ، و لم يأت في كل هذا أمراً نهي عنه ، فيعصى به ، و لا نص فيما أوحى الله إليه بذلك ، و لا بالتوبة و الاستغفار منه . و الله أعلم .
فإن قيل : فما معنى قوله عليه السلام : ما من أحد إلا ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا ، أو كما قال النبي صلى الله عليه و سلم .
فالجواب عنه : كما تقدم م ن ذنوب الأنبياء التي وقعت عن غير قصد و عن سهو و غفلة ] .



فصل
معقود لدفع شبه نشأت مما قدمه
فإن قلت : فإذا نفيت عنهم صلوات الله عليهم الذنوب و المعاصي بما ذكزته من اختلاف المفسرين و تأويل المحققين فما معنى قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ، و ما تكرر في القرآن و الحديث الصحيح من اعتراف الأنبياء بذنوبهم و توبتهم و استغفارهم [219 ] ، و بكائهم على ما سلف منهم ، وإشفاقهم. و هل يشفق و يتاب و يستغفر من لا شيء ؟ .
فاعلم و فقنا الله و إياك أن درجة الأنبياء في الرفعة و العلو و المعرفة با الله ، و سنته في عباده و عظم سلطانه ، و قوة بطشه ، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله ، و الإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم ، و أنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها ،و لا أمروا بها ، ثم أخذوا عليها ، و عوتبوا بسببها ، أو حذروا من المؤاخذة بها ، و أتوها على وجه التأويل أو السهو ، أو تزيد من أمور الدنيا المباحة خائفون و جلون ، و هي ذنوب بالإضافة إلى علي منصبهم ، و معاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم ، لا أنها كذنوب غيرهم و معاصيهم ، فإن الذنب مأخوذ من الشيء الدني الرذل ، و منه ذنب كل شيء أي آخره . و أذناب الناس رذالهم ، فكأن هذه أدنى أفعالهم ، و أسوأ ما يجر ي من أحوالهم لتطهيرهم و تنزيههم ، و عمارة بواطنهم و ظواهرهم بالعمل الصالح ، و الكلم الطيب ، و الذكر الظاهر و الخفي ، و الخشية الله ، و إعظامه في السر و العلانية ، و غيرهم يتلوث من الكبائر و القبائح و الفواحش ما تكون بالإضافة إليه هذه الهنات في حقه كالحسنات ، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أي يرونها بالإضافة إلى علي أحوالهم كالسيئات .
و كذلك العصيان الترك و المخالفة ، فعلى مقتضى اللفظة كيفما كانت من سهو أو تأويل فهي مخالفة و ترك .
قوله تعالى : غوى ، أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها ،و الغي : الجهل .
و قيل : أخطأ ما طلب من الخلود ، إذ أكلها و خابت أمنيته .
و هذا يوسف عليه السلام قد أوخذ بقوله لأحد صاحبي السجن : اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين [ سورة بوسف /12 الآية : 42 ] .
قيل : أنسي يوسف ذكره الله .
و قيل : أنسي صاحبه أن يذكره لسيده الملك ، قال النبي صلى الله عليه و سلم : لولا كلمة يوسف مالبث في السجن ما لبث .
قال ابن دينار : لما قال ذلك يوسف قيل له : اتخذت من دوني وكيلا ، لأطيلن حبسك . فقال : يارب ، أنسى قلبي كثر ة البلوى .
و قال بعضهم : يؤاخذ الأنبياء بمثا قيل الذر ، لمكانتهم عنده ، و يجاوز عن سائر الخلق لقلة مبالاته بهم في أضعاف ما أتوا به من سوء الأدب .
و قد قال المحتج للفرقة الأولى على سياق ما قلناه : إذا كان الأنبياء يؤاخذون بهذا مما لا يؤاخذ به غيرهم من السهو و النسيان ، و ما ذكرته ، و حالهم أرفع فحالهم إذًا في هذا أسوأ حالاً من غيرهم .
فاعلم أكرمك الله أنا لا نثبت لك المؤاخذة في هذا على حد مؤاخذة غيرهم ، بل نقول : إنهم يؤاخذون بذلك في الدنيا ، ليكون ذلك زيادة في درجاتهم ، و يبتلون بذلك ، ليكون استشعارهم له سبباً لمنماة رتبهم ، كما قال : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ سورة طه /20 ، الآية :122] .
قال [ 220 ] لداود : فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ سورة ص /23 ، الآية : 25 ] .
قال بعد قول موسى : تبت إليك : إني اصطفيتك على الناس .
و قال بعد ذكر فتنة سليمان و إنابته : فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ سورة ص/38 ، الآية : 36 ، 40 ] .
و قال بعض المتكلمين : زلات الأنبياء في الظاهر زلات ، و في الحقيقة كرامات وزلف ، وأشار إلى نحو مما قدمناه .
و أيضاً فلينبه غيرهم من البشر منهم ، أو ممن ليس في درجتهم بمؤاخذتهم بذلك ، فيستشعروا الحذر ، ويعتقدوا المحاسبة ليلتزموا الشكر على النعم ، ويعدوا الصبر على المحن بملاحظة ما وقع بأهل هذا النصاب الرفيع المعصوم ، فكيف بمن سواهم ، ولهذا قال صالح المري : ذكر داود بسطة للتوابين .
قال ابن عطاء : لم يكن ما نص الله تعالى عليه من قضية صاحب الحوت نقصا له ، و لكن استزادة من نبينا صلى الله عليه و سلم .
و أيضاً فيقال لهم : فإنكم و من وافقكم تقولون بغفران الصغائر باجتناب الكبائر .
و لا خلاف في عصمة الأنبياء من الكبائر ، فما جوزتم من وقوع الصغائر عليهم هي مغفورة على هذا ، فما معنى المؤاخذة بها إذاً عندكم و خوف الأنبياء و توبتهم منها ، و هي مغفورة لو كانت ؟
فما أجابوا به فهو جوابنا عن المؤاخذة بأعمال السهو و التأويل .
و قد قيل : إن كثرة استغفار النبي صلى الله عليه و سلم و توبته ، و غيره من الأنبياء على و جه ملازمة الخضوع و العبودية ، و الاعتراف بالتقصير ، شكراً الل ه على نعمه ، كما قال صلى الله عليه و سلم و قد أمن من المؤاخذة مما تقدم و تأخر : أفلا أكون عبداً شكوراً .
و قال : إني أخشاكم الله ، و أعلمكم بما أتقي .
قال الحارث بن أسد : خوف الملائكة و الأنبياء خوف إعظام و تعبد الله ، لأنهم آمنون .
و قيل : فعلوا ذلك ليقتدي بهم ، و تستن بهم أممهم ، كما قال صلى الله عليه و سلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً و لبكيتم كثيراً .
و أيضاً فإن في التوبة و الإستغفار معنى آخر لطيفاً أشار إليه بعض العلماء ، و هو استدعاء محبة الله ، قال الله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ سورة البقرة / 2، الآية : 222 ] .
فإحداث الرسل و الأنبياء الإستغفار و التوبة و الإنابة و الأوبة في كل حين استدعاء لمحبة الله ! والإستغفار فيه معنى التوبة ، وقد قال الله لنبيه بعد أن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 117 ] .
و قال تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ سورة النصر / 110 ، الآية : 3 ] .
فصل
في تنزيه النبي عما لا يجب أن يضاف إليه
قد استبان لك أيها أبها الناظر بما قررناه ، ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه و سلم عن الجهل با لله و صفاته ، و كونه علىحاله تنافي العلم بشيء من ذلك كله بعد النبوة عقلاً و اجماعاً ، و قبلها سمعاً و نقلاً ، و لا بشيء مما قرره من أمور الشرع ، و أداه عن ربه من الوحي قطعاً عقلاً و شرعاً ، و عصمته عن الكذب و خلف القول منذ نبأه الله و أرسله قصداً أو غير قصد ، و استحالة ذلك عليه شرعاً و إجماعاً ، و نظراً و برهاناً ، و تنزيهه عنه قبل النبوة قطعاً ، و تنزيهه [ 221 ] عن الكبائر إجماعاً و عن الصغائر تحقيقاً ، و عن استدامة السهو و الغفلة ، و استمرار الغلط و النسيان عليه فيما شرعه للأمة ، و عصمته في كل حالاته ، من رضاً و غضب ، و جد و مزح ، فيجب عليك أن تتلقاه باليمين ، و تشد عليه يد الضنين و تقدر هذه الفصول حق قدرها ، و تعلم عظيم فائدتها و خطرها ، فإن من يجهل ما يجب للنبي صلى الله عليه و سلم ، أو يجوز له ، أو يستحيل عليه ، و لا يعرف صور أحكامه ، لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه ، و لا ينزهه عما لا يجب أن يضاف إليه ، فيهلك من حيث لا يدري ، و يس قط في هوة الدرك الأسفل من النار حدثنا إذ ظن الباطل به ، و اعتقاده ما لا يجوز عليه يحل بصاحبه دار البوار .
و لهذا ما احتاط عليه السلام على الرجلين اللذين رأياه ليلاً ، و هو معتكف في المسجد مع صفية ، فقال لهما : إنها صفية . ثم قال لهما : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، و إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً فتهلكا .
هذه أكرمك الله إحدى فوائد ما تكلمنا عليه في هذه الفصول ، و لعل جاهلاً لا يعلم بجهله إذا سمع شيئاً منها برى أن الكلام فيها جملة من فصول العلم ، و أن السكوت أولى . و قد استبان لك أنه متعين للفائدة التي ذكرناها .
و فائدة ثانية يضطر إليها في أصول الفقه ، و تبني عليها مسائل لا تنعد من الفقه ، يتخلص بها من تشغيب مختلفي الفقهاء في عدة منها ، وهي الحكم في أقوال النبي صلى الله عليه و سلم و أفعاله ، و هو باب عظيم ، و أصل كبير من أصول الفقه ، و لا بد من بنائه على صدق النبي صلى الله عليه و سلم في إخباره و بلاغه ، و أنه لا يجوز عليه السهو فيه تعالى و عصمته من المخالفة في أفعاله عمداً ، و بحسب اختلافهم في وقوع الصغائر وقع خلاف في امتثال الفعل ، بسط بيانه في كتب ذلك العلم حدثنا فلا نطول به .
و فائدة ثالثة يحتاج إليها الحاكم و المفتى فيمن أضاف إلى النبي صلى الله عليه و سلم شيئاً من هذه الأمور ، و وصفه بها ، فمن لم يعرف ما يجوز و ما يمتنع عليه ، و ما وقع الإجماع فيه و الخلاف ، كيف يصمم في الفتيا في ذلك ، و من أين يدري ؟ هل ما قاله فيه نقص أو مدح ، فإما أن يجترىء على سفك دم مسلم حرام ، أو يسقط حقاً ، أو يضيع حرمه للنبي صلى الله عليه و سلم .
و اسبيل هذا ما قد اختلف أرباب الأصول و أئمة العلماء و المحققين في عصمة الملائكة .
فصل
في القول في عصمة الملائكة
أجمع المسلمون على أن الملائكة مؤمنون فضلاء ، واتفق أئمة المسلمين أن حكم المرسلين منهم حكم النبيين سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه ، وأنهم في حقوق الأنبياء والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم .
واختلفوا في غير المرسلين منهم ، فذهبت طائفة إلى عصمة جميعهم عن المعاصي ، واحتجوا بقوله تعالى : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . و بقوله : وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون . [ 222 ] و بقوله : ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون . و بقوله : إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . و بقوله : كرام بررة و لا يمسه إلا المطهرون ، و نحوه من السمعيات .
و ذهبت طائفة إلى أن هذا خصوص للمرسلين منهم و المقربين . و احتجوا بأشياء ذكرها أهل الأخبار و التفاسير ، نحن نذكرها إن شاء الله بعد ، و نبين الوجه فيها إن شاء الله .
و الصواب عصمة جميعهم ، و تنزيه نصابهم الرفيع عن جميع ما يحط من رتبتهم ومنزلتهم عن جليل مقدارهم .
ورأيت بعض شيوخنا أشرا أن لا حاجة بالفقيه إلى الكلام في عصمتهم ، و أنا أقول : إن للكلام في ذلك ما للكلام في عصمة الأنبياء من الفوائد التي ذكرناها سوى فائدة الكلام في الأقوال و الأفعال ، فهي ساقطة ها هنا .
فما احتج به من لم يوجب عصمة جميعهم قصة هاروت و ماروت ، و ما ذكر فيها أهل الأخبار و نقله المفسرين ، و ما روي عن علي و ابن عباس في خبرهما و ابتلائهما .
فاعلم أكرمك الله أن هذه الأخبار لم يرو منها شيء لا سقيم و لا صحيح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ليس هو شيئاً يؤخذ بقياس .
و الذي منه في القرآن اختلف المفسرون في معناه ، و أنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف كما سنذكره . وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم ، كما نصه الله أول الآيات من افترئهم بذلك على سليمان و تكفيرهم إياه .
و قد انطوت القصة على شنع عظيمة . و ها نحن نخبر في ذلك ما يكشف غطاء هذه الإشكالات إن شاء الله :
فاختلف أولاً في هاروت و ماروت ، هل هما ملكان أو إنسيان ؟ وهل هما المراد بالملكين أم لا ؟ و هل القراءة ملكين أو ملكين ؟ و هل ما في قوله : وما أنزل على الملكين . وما يعلمان من أحد نافية أو موجبة ! .
فأكثر المفسرين أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين لتعليم السحر وتبيينه ، و أن عمله كفر ، فمن تعلمه كفر ، و من تركه آمن ، و قال الله تعالى : إنما نحن فتنة فلا تكفر و تعليمها الناس له تعليم إنذار ، أي يقولان لمن جاء يطلب تعلمه : لا تفعلوا كذا : فإنه يفرق بين المرء و زوجه ، و لا تتحيلوا بكذا ، فإنه سحر ، فلا تكفروا .
فعلى هذا فعل الملكين طاعة ، و تصر فهماً فيما أمرا به ليس بمعصية ، و هي لغيرهما فتنة .
و روى ابن وهب ، عن خالد بن أبي عمران أنه ذكر عنده هاروت و ماروت ، و أنهما يعلمان السحر ، فقال : نحن ننزههما عن هذا .
فقرأ بعضهم : وما أنزل على الملكين . فقال خالد : لم ينزل عليهما .
فهذا خالد على جلالته و علمه نزههما عن تعليم السحر الذي قد ذكر غيره أنهما مأذون لهما في تعليمه بشريطة أن يبينا أنه كفر ، ، و أنه امتحان من الله و ابتلاء ، فكيف لا ينزههما عن كبائر المعاصي و الكفر المذكورة في تلك الأخبار .
و قول خالد : [ 223 ] لم ينزل : يريد أن ما نافية ، و هو قول ابن عباس ، قال مكي : و تقدير الكلام : و ما كفر سليمان يريد بالسحر الذي افتعلته الشياطين ، فاتبعتهم في ذلك اليهود ، و م ا أنزل على الملكين ، قال مكي : هما جبريل و ميكائ


حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:06 AM   #45
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




ادعى اليهود عليهما المجيء به ، كما ادعوا على سليمان ، فأكذبهم الله في ذلك .
و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت و ماروت قيل : هما رجلان تعلماه .
قال الحسن : هاروت و ماروت علجان من أهل بابل ، و قرأ : و ما أنزل على الملكين بكسر اللام ، و تكون [ ما ] ايجاباً على هذا .
و كذلك قراءة عبد الرحمن بن أبزى بكسر اللام ، و لكنه قال : الملكان هنا داود و سليمان ، و تكون [ ما ] نفياً على ما تقدم .
و قيل : كانا ملكين من بني اسرائيل ، فمسخهما الله ، حكاه السمرقندي .
و القراءة بكسر اللام شاذة ، فحمل الآية على تقدير أبي محمد مكي حسن ينزه الملائكة و يذهب الرجس عنهم ، و يطهرهم تطهيراً .
و قد وصفهم الله مطهرون ، و كرام بررة ، و لا يعصون الله ما أمرهم .
و مما يذكرونه قصة إبليس ، و أنه كان من الملائكة و رئيساً فيهم ، و من خزان الجنة ... إلى آخر ما حكوه ، و أنه استثناه من الملائكة بقوله : فسجدوا إلا إبليس
و هذا أيضاً لم يتفق عليه ، بل الأكثر ينفون ذلك ، و أنه أبو الجن ، كما أن آدم أبو الإنس ، و هو قول الحسن ، و قتادة ، و ابن زيد .
و قال شهر بن حوشب : كان من الجن الذين طردتهم الملائكة في الأرض حين أفسدوا ، و الاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب سائغ ، و قد قال الله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ سورة النساء / 4 ، الآية : 157 ] .
و مما رووه من الأخبار أن خلقاً من الملائكة عصوا الله فحرقوا ، و أمروا أن يسجدوا لأدم فأبوا فحرقوا ، ثم آخرون كذلك ، حتى سجدوا له من ذكر الله إلا إبليس ، في أخبار لا أصل لها تردها صحاح الأخبار ، فلا يشتغل بها . و الله أعلم .
الباب الثاني : فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم من العوارض البشرية
قد قدمنا أنه صلى الله عليه و سلم و سائر الأنبياء و الرسل من البشر ، و أن جسمه ، و ظاهره خالص للبشر ، يجوز عليه من الآفات و التغييرات ، و الآلام و الأسقام ، و تجرع كأس الحمام ما يجوز على البشر ، و هذا كله ليس بنقيصة فيه ، لأن الشيء إنما يسمى ناقصاً بالإضافة إلى ما هو أتم و أكمل من نوعه ، و قد كتب الله تعالى على أهل هذه الدار : فيها تحيون ، و فيها تموتون ، و منها تخرجون ، ، و خلق جميع البشر بمدرجة الغير ، فقد مرض صلى الله عليه و سلم ، و اشتكى ، و أصابه الحر و القر ، و أدركه الجوع و العطش ، و لحقه الغضب و الضجر ، و ناله الإعياء و التعب ، و مسه الضعف و الكبر ، و سقط فجحش شقه ، و شجه الكفار ، و كسروا رباعيته ، و سقي السم ، و سحر ، [ 224 ] و تداوى ، و احتجم ، و تنشر و تعوذ ، ثم قضى نحبه فتوفي صلى الله عليه و سلم ، و لحق بالرفيق الأعلى ، و تخلص من دار الامتحان و البلوى ، و هذه سمات البشر التي لا محيص عنها ، و أصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منه ، فقتلوا قتلاً .
و رموا في النار ، و وشروا بالمياشير . و منهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات . و منهم من عصمه كما عصم بعد نبينا من الناس ، فلئن لم يكف نبينا ربه يد ابن قميئة يوم أحد ، و لا حجبه عن عيون عداه عند دعوته أهل الطائف ، فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور ، و أمسك عنه سيف غورث ، و حجر أبي جهل ، و فرس سراقة ، و لئن لم يقه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم ، من سم اليهودية .
و هكذا سائر أنبيائه مبتلى و معافى ، و ذلك من تمام حكمته ، ليظهر شرفهم في هذه المقامات ، و يبين أمرهم ، و يتم كلمته فيهم ، و ليحقق بامتحانهم بشريتهم ، و يرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم ضلال النصارى بعيسى ابن مريم ، و ليكون في محنهم تسلية لأممهم ، و وفور لأجورهم عند ربهم تماماً على الذي أحسن إليهم .
قال بعض المحققين : و هذه الطوارئ و التغيرات المذكورة إنما تختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر ، و معاناة بني آدم لمشاكلة الجنس .
و أما بواطنهم فمنزهة غالباً عن ذلك معصومة منه ، متعلقة بالملأ الأعلى و الملائكة لأخذها عنهم ، و تلقيها الوحي منهم .
قال : و قد قال صلى الله عليه و سلم : إن عيني تنامان و لا ينا م قلبي .
و قال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت يطعمني ربي و يسقيني .
و قال : لست أنسى ، و لكن أنسى ، ليستن بي .
فأخبر أن سره و باطنه و روحه بخلاف جسمه و ظاهره ، و أن الآفات التي تحل ظاهره من ضعف و جوع ، و سهر و نوم ، لا يحل منها شيء باطنه ، بخلاف غيره من البشر في حكم الباطن ، لأن غيره إذا نام استغرق النوم جسمه و قلبه ، و هو صلى الله عليه و سلم في نومه حاضر القلب كما هو في يقظته حتى قد جاء في بعض الآثار أنه كان محروساً من الحدث في نومه لكونه قلبه يقظان كما ذكرناه .
و كذلك غيره إذا جاع ضعف لذلك جسمه ، و خارت قوته ، فبطلت بالكلية جملته ، و هو صلى الله عليه و سلم قد أخبر أنه لا يعتريه ذلك ، و أنه بخلافهم ، لقوله : لست كهيئتكم : إني أبيت يطعمني ربي و يسقيني .
و كذلك أقول : إنه في هذه الأحوال كلها ، من وصب و مرض ، و سحر و غضب ، لم يجز على باطنه ما يحل به ، و لا فاض منه على لسانه و جوارحه ما لا يريق به ، كما يعتري غيره من البشر مما نأخذ بعد في بيانه .
فصل
الأخبار التي وردت في أنه صلى الله عليه و سلم سحر
فإن قلت : فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه و سلم سحر كما حدثنا الشيخ أبو محمد العتابي بقراءتي عليه ، قال : حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن علي بن خلف ، حدثنا محمد بن أحمد [ 225 ] ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبيد بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هاشم بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء و ما فعله .
و في رواية أخرى : حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء و لا يأتيهن .. الحديث .
و إذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور فكيف حال النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك ؟ و كيف جاز عليه و هو معصوم ؟ .
فاعلم وفقنا الله و إياك أن هذا الحديث صحيح متفق عليه ، و قد طعنت فيه الملحدة ، و تدرعت به لسخف عقولها و تلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع ، و قد نزه الله الشرع و النبي عما يدخل في أمره لبسأً و إنما السحر مرض من الأمراض ، و عارض من العلل ، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر و لا يقدح في نبوته .
و أما ما و رد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء و لا يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخله في شيء من تبلغيه أو شريعته ، أو يقدح في صدقه ، لقيام الدليل و الإجماع على عصمته من هذا ، و إنما هذا ، فيما يجوز طروءة عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ، و لا فضل من أجلها ، و هو فيها للأفات كسائر البشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه ، كما كان .
و أيضاً فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله : حتى يخيل إليه أنه يأتي أهله و لا يأتيهن .
و قد قال سفيان و هذا أشد ما يكون من السحر ، و لم يأت في خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ما كان أخبر أنه فعله و لم يفعله ، و إنما كانت خواطر و تخيلات .
و قد قيل : إن المراد بالحديث أنه : كان يتخيل الشيء أنه فعله ، و ما فعله ، لكنه تخييل لا يعتقد صحته ، فتكون اعتقاداته كلها على السداد ، و أقواله على الصحة .
هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع ما أوضحناه من معنى كلامهم ، و زدناه بياناً من تلويحاتهم . و كل وجه منها مقنع ، لكنه قد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى و أبعد من مطاعن ذوي الأضاليل يستفاد من نفس الحديث ، و هو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب ، و عروة بن الزبير ، و قال فيه عنهما : سحر يهود بني زريق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينكر بصره ، ثم دله الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر .
[ و روي نحوه عن ، عن الواقدي ، و عن عبد الرحمن بن كعب ، و عمر بن الحكم ] .
و ذكر عن عطاء الخرساني ، عن يحيى بن يعمر : حبس رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عائشة سنة ، فبينا هو نائم أتاه ملكان ، فقعد أحدهما عند رأسه و الآخر عند رجليه ... الحديث .
قال عبد الرزاق : حبس رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عائشة خاصة سنة حتى أنكر بصره .
[ و روى محمد بن سعد ، عن ابن عباس : مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فحبس عن النساء و الطعام و الشراب ، فهبط عليه ماكان ... و ذكر القصة ] .
فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره و جوارحه [ 226 ] ، لا على قلبه و اعتقاده و عقله ، و أنه إنما أثر في بصره ، و حبسه عن وطء نسائه [ و طعامه ، و أضعف جسمه و أمرضه ] ، و يكون معنى قوله : يخيل إليه أنه يأتي أهله و لا يأتيهن ، أي يظه ر له من نشاطه و متقدم عادته القدرة على النساء ، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر ، فلم يقدر على إتيانهن ، كما يعتري من أخذ و اعترض .
و لعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله : و هذا أشد ما يكون من السحر . و يكون قول عائشة في الرواية الآخرى : إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء و ما فعله ، من باب ما اختل من بصره ، كما ذكر في الحديث ، فيظن أنه رأى شخصاً من بعض أزواجه ، أو شاهد فعلاً من غيره ، و لم يكن على ما يحيل إليه لما أصابه في بصره و ضعف نظره ، لا لشيء طرأ عليه في ميزه .
و إذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابته السحر له و تأثيره فيه ما يدخل لبساً و لا يجد به الملحد المعترض أنساً .



فصل
في أحواله صلى الله عليه و سلم في أمور الدنيا
هذه حاله في جسمه ، فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسبرها على أسلوبنا المتقدم بالعقد و القول و الفعل .
أما العقد منها فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه و يظهر خلافه ، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع ، كما حدثنا أبو بحر سفيان بن العاصي و غير واحد سماعاً و قراءة ، قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر ، ، قال : حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد بن عمرويه ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا عبد الله بن الرومي ، و عباس العنبري ، و أحمد المعقري ، قالوا : حدثنا النضر بن محمد ، قال : حدثني عكرمة ، حدثنا أبو النجاشي ، قال : حدثنا رافع بن خديج ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و هم يأبرون النخل ، فقال : ما تصنعون ؟ قالوا : كنا نصنعه . قال : لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً ، فتركوه ، فنقصت ، فذكروا ذلك له ، فقال : إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، و إذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر .
و في رواية أنس : أنتم أعلم بأمر دنياكم .
و في حديث آخر : إنما ظننت ظناً ، فلا تؤاخذوني بالظن .
و في حديث ابن عباس في قصة الخرص ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق ، و ما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطيء و أصيب .
و هذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا و ظنه من أحوالها ، لا ما قاله من قبل نفسه و اجتهاده في شرع شرعه ، و سنة سنها .
و كما حكى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه و سلم لما نزل بأدنى مياه بدر قال له الحباب بن المنذر : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، أم هو الرأي و الحرب و المكيدة ؟
قال : [ لا ، بل هو الرأي و الحرب و المكيدة ] . قال : فإنه ليس بمنزل ، انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نعور ما وراءه من القلب ، فنشرب و لا يشربون . فقال : [ أشرت بالرأي ] ، و فعل ما قاله .
و قد قال له الله [ 227 ] تعالى : وشاورهم في الأمر [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 159 ] .
و أراد مصالحة بعض عدوه على ثلث ثمر المدينة ، فاستشار الأنصار . فلما أخبروه برأيهم رجع عنه .
فمثل هذا و أشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة و لا اعتقادها و لا تعليمها ، يجوز عليه في ه ما ذكرناه ، إذ ليس في هذا كله نقيصة و لا محطة ، و إنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها ، و جعلها همة ، و شغل نفسه بها ، و النبي صلى الله عليه و سلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملآن الجوانح بعلوم الشريعة ، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية و الدنيوية ، و لكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ، و يجوز في النادر فيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا و استثمارها ، لا في الكثير المؤذن بالبله و الغفلة .
و قد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه و سلم من المعرفة بأمور الدنيا و دقائق مصالحها ، و سياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر مما قد نبهها عليه في باب معجزاته من هذا الكتاب .
فصل
فيما يعتقد من أمور أحكام البشر الجارية على يديه و قضاياهم
و أما ما يعتقد في أمور أحكام البشر الجارية على يديه و قضاياهم ، و معرفة المحق من المبطل ، و علم المصلح من المفسد ، فبهذه السبيل ، لقوله صلى الله عليه و سلم : إنما أنا بشر ، و إنكم تختصمون إلي ، و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً ، فإنما أقطع له قطعة من النار .
حدثنا الفقيه أبو الوليد رحمه الله ، حدثنا الحسين بن محمد الحافظ ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا أبو محمد ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ... الحديث .
و في رواية الزهري ، عن عروة : فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه صادق فأقضي له .
و تجري أحكامه صلى الله عليه و سلم على الظاهر و موجب غلبات الظن بشهادة الشاهد ، و يمين الحالف ، و مراعاة الأشبه ، و معرفة العفاص و الوكاء ، مع مقتضى حكمه الله في ذلك ، فإنه تعالى لو شاء لأطلعه على سرائر عباده و مخبآت ضمائر أمته ، فتولى الحكم بينهم بمجرد يقينه وعلمه دون حاجة إلى اعتراف أو بينة أو يمين أو شبهة ، و لكن لما أمر الله أمته باتباعه و الإقتداء به في أفعاله و أحواله و قضاياه و سيره ، و كان هذا لو كان مما يختص بعلمه و يؤثره الله به ، لم يكن للأمة سبيل إلى الاقتداء به في شيء من ذلك ، و لا قامت حجة بقضية من قضاياه لأحد في شريعته ، لأنا لا نعلم ما أطلع عليه هو في تلك القضية لحكمه هو إذاً في ذلك بالمكنون من إعلام الله له بما أطلعه عليه من سرائرهم ، و هذا ما لا تعلمه الأمة ، فأجرى الله تعالى أحكامه على ظواهرهم التي يستوي في ذلك هو و غيره من البشر ، ليتم اقتداء أمته به في تعيين قضاياه ، و تنزيل أحكامه ، و يأتون ما أتوا من ذلك [ 228 ] على علم و يقين من سنته ، إذ البيان بالفعل أوقع منه بالقول ، و أدفع لاحتمال اللفظ و تأويل المتأول ، و كان حكمه على الظاهر أجلى في البيان ، و أوضح في وجوه الأحكام ، و أكثر فائدة لموجبات التشاجر و الخصام ، و ليقتدي بذلك كله حكام أمته ، و يستوثق بما يؤثر عنه ، و ينضبط قانون شريعته ، و طي ذلك عنه من علم الغيب الذي استأثر به عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى م ن رسول ، فيعلمه منه بما شاء ، و يستأثر بما شاء ، و لا يقدح هذا في نبوته ، و لا يفصم عروة عن عصمته .
فصل
و أما أقواله الدنيوية
و أما أقواله الدنيوية من أخباره عن أحواله و أحوال غيره و ما يفعله أو فعله فقد قدمنا أن الخلف فيها ممتنع عليه في كل حال ، و على أي وجه ، من عمد أو سهو ، أو صحة أو مرض ، أو رضا أو غضب ، و أنه معصوم منه صلى الله عليه و سلم .
هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق و الكذب ، فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه في الأمور الدنيوية لا سيما لقصد المصلحة ، كتوريته عن وجه مغازيه لئلا يأخذ العدو جذره .
و كما روي من ممازحته و دعابته لبسط أمته و تطييب قلوب المؤمنين من صحابته ، و تأكيداً في تحببهم و مسرة نفوسهم ، كقوله : لأحملنك على ابن الناقة . و قوله للمرأة التي سألته عن زوجها : أهو الذي بعينه بياض .
و هذا كله صدق ، لأن كل جمل ابن ناقة ، و كل إنسان بعينه بياض و قد قال صلى الله عليه و سلم : إني لأمزح و لا أقول إلا حقاً .
هذا كله فيما بابه الخبر ، فأما ما بابه غير الخبر مما صورته صورة الأمر و النهي في الأمور الدنيوية فلا يصح منه أيضاً ، ولا يجوز عليه أن يأمر أحداً بشيء أو ينهي أحداً عن شيء وهو يبطن خلافه .
وقد قال صلى الله عليه و سلم : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ، فكيف أن تكون له خيانة قلب .
فإن قلت : فما معنى إذاً قوله تعالى في قصة زيد : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] .
فاعلم أكرمك الله ، و لا تسترب في تنزيه النبي صلى الله عليه و سلم عن هذا الظاهر
و أن يأمر زيداً بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها ، كما ذكر عن جماعة من المفسرين .
و أصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما شكاها إليه زيد قال له : أمسك عليك زوجك واتق الله . و أخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوجها مما الله مبديه و مظهره بتمام التزويج وتطليق زيد لها .
وروى نحوه عمرو بن فائد ، عن الزهري ، قال : نزل جبريل على النبي يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش ، فذلك الذي أخفى في نفسه ويصحح هذا قول المفسرين في قوله تعالى بعد هذا : وكان أمر الله مفعولا ، أي لا بد لك [ 229 ] أن تتزوجها .
ويوضح هذا أن الله لم يبد من أمره معها غير زواجه لها ، فدل أنه الذي أخفاه صلى الله عليه و سلم مما كان أعلمه به تعالى .
و قوله تعالى في القصة : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] .
فدل أنه لم يكن عليه حرج في الأمر .
قال الطبري : ما كان الله ليؤثم نبيه فيما أحل مثال فعله لمن قبله من الرسل ، قال الله تعالى : سنة الله في الذين خلوا من قبل ، أي من النبيين فيما أحل لهم ، ولو كان على ما روي في حديث قتادة من وقوعها من قلب النبي صلى الله عليه و سلم عندما أعجبته ، ومحبته طلاق زيد لها لكان فيه أعظم الحرج ، وما لا يليق به من مد عينيه لما نهي عنه من زهرة الحياة الدنيا ، و لكان هذا نفس الحسر المذموم الذي لا يرضاه ولا يتسم به الأتقياء ، فكيف سيد الأنبياء ؟ .
قال القشيري : و هذا إقدام عظيم من قائله ، و قلة معرفة بحق النبي صلى الله عليه و سلم و بفضله .
و كيف يقال : رآها فأعجبته وهي بنت عمه ، و لم يزل يراها منذ ولدت ، و لا كان النساء
يحتجبن منه صلى الله عليه و سلم ، و هو زوجها لزيد ، و إنما جعل الله طلاق زيد لها ، و تزويج النبي صلى الله عليه و سلم إياها ، لإزالة حرمة التبني و إبطال سنته ، كما قال : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم . و قال : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 40 ] .
و نحوه لابن فورك .
و قال أبو الليث السمرقندي : فإن قيل : فما الفائدة في أمر النبي صلى الله عليه و سلم لزيد بإمساكها ؟ فهو أن الله أعلم نبيه أنها زوجته ، فنهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن طلاقها ، إذ لم تكن بينهما ألفة ، و أخفى في نفسه ما أعلمه الله به فلما طلقها زيد خشي قول الناس : يتزوج إمرأة ابنه ، فأمره الله بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته ، كما قال تعالى : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] .
و قد قيل : كان أمره لزيد بإمساكها قمعاً للشهوة ، و رداً للنفس عن هواها . و هذا إذا جوزنا عليه أنه رآها فجأة و استحسنها . و مثل هذا لا نكرة فيه ، لما طبع عليه ابن آدم من استحسانه للحسن ، و نظرة الفجاءة معفو عنها ، ثم قمع نفسه عنها ، و أمر زيداً بإمساكها ، و إنما تنكر تلك الزيادات في القصة . و التعوي ل و الأولى ما ذكرناه عن علي بن حسين ، و حكاه السمرقندي ، و هو قول ابن عطاء ، و صححه و استحسنه القاضي القشيري ، [ و عليه عول أبو بكر بن فورك ، و قال : إنه معنى ذلك عند المحققين من أهل التفسير ، قال : و النبي صلى الله عليه و سلم منزه عن استعمال النفاق في ذلك ، و إظهار خلاف ما في نفسه ، و قد نزهه الله عن ذلك بقوله تعالى : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ، و من ذلك بالنبي صلى الله عليه و سلم فقد أخطأ .
قال : و ليس معنى الخشية هنا الخوف ، و إنما معناه الاستحياء ، أي يستحي منهم أن يقولوا : تزوج زوجة ابنة ] .
و أن خشيته صلى الله عليه و سلم من الناس كانت من إرجاف المنافقين و اليهود و تشغيبهم على المسلمين بقولهم : تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء ، كما كان ، فعتبة الله على هذا ، و نزهه عن الالتفاف إليهم فيما أحله له ، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله : لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم . و كذلك قوله له ها هنا : وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] .
و قد روي عن الحسن و عائشة : لو كتم رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً كتم هذه الآية لما في من عتبه [ 230 ] و إبداء ما أخفاه .



فصل
في معنى الحديث في وصيته صلى الله عليه و سلم
فإن قلت : قد قررت عصمته صلى الله عليه و سلم في أقواله في جميع أحواله ، و أنه لا يصح منه فيها خلف و لا اضطراب في عمد و لا سهو ، و لا صحة و لا مرض ، و لا جد و لا هزل ، و لا رضا و لا غضب . و لكن ما معنى الحديث في وصيته صلى الله عليه و سلم الذي حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، قال : حدثنا القاضي أبو الوليد ، حدثنا أبو ذر ، حدثنا أبو محمد ، و أبو الهيثم ، و أبو إسحاق ، قالوا : حدثنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا عبد الرزاق ابن همام ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : لما حضر رسول الله صلى الله عليه و سلم و في البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هلموا أكتب كتاباً لن تضلوا بعده .
فقال بعضهم : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد غلبه الوجع ... الحديث .
و في رواية : ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ، فتنازعوا فقالوا : ماله أهجر ! استفهموه ، فقال دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير .
و في بعض طرقه : أن النبي صلى الله عليه و سلم يهجر .
و في رواية : هجر . و يروى : أهجر . و يروى : أهجراً .
و فيه فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه و سلم قد اشتد به الوجع ، و عندنا كتاب الله حسبنا .
و كثر اللغط ، فقال : قوموا عني .
و في رواية : و اختلف أهل البيت و اختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاباً .
و منهم من يقول ما قال عمر .
قال أئمتنا في هذا الحديث : النبي صلى الله عليه و سلم غير معصوم من الأمراض ، و ما يكون من عوارضها من شدة وجع و غشي و نحوه مما يطرأ على جسمه ، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته ، و يؤدي إلى فساد في شريعته من هذيان و اختلال كلام .
و على هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث : هجر إذ معناه هذى يقال : هجر هجراً ، إذا هذى . و أهجر هجراً ، إذا أفحش ، و أهجر تعديه هجر ، و إنما الأصح و الأولى أهجر ، على طريق الإنكار على من قال : لا نكتب .
و هكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرواة في حديث الزهري المتقدم ، و في حديث محمد بن سلام ، عن عيينة ، و كذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه ، و غيره من هذه الطرق ، و كذا رويناه عن مسلم في حديث سفيان ، و عن غيره .
و قد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام ، و التقدير :
أهجر ، أو أن يحمل قول القائل هجر أو أهجر دهشة من قائل ذلك و حيرة لعظيم ما شاهد من حال الرسول صلى الله عليه و سلم ، و شدة وجعه ، و هو المقام الذي اختلف فيه عليه ، و الأمر الذي هم بالكتاب فيه ، حتى لم يضبط هذا القائل لفظه ، و أجرى الهجر مجرى شدة الوجع ، لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر ، كما حملهم الإشفاق على حراسته ، و الله تعالى يقول : والله يعصمك من الناس ، و نحو هذا .
و أما على [ 261 ] رواية : أهجراً و هي رواية أبي إسحاق المستملي في الصحيح في حديث ابن جبير ، عن ابن عباس ، من رواية قتيبة فقد يكون هذا راجعاً إلى المختلفين عنده صلى الله عليه و سلم ، و مخاطبة لهم من بعضهم ، أي جئتم باختلافكم على رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين يديه هجراً و منكراً من القول .
و الهجر بضم الهاء : الفحش في المنطق .

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:06 AM   #46
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




و قد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث ، و كيف اختلفوا بعد أمره لهم عليه السلام أن يأتوه بالكتاب ، فقال بعضهم ، أوامر النبي صلى الله علي ه و سلم يفهم إجابها من ندبها من إباحتها بقرائن ، فلعله قد ظهر من قرائن قوله صلى الله عليه و سلم لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة ، بل أمر رده إلى اختيارهم ، و بعضهم لم يفهم ذلك ، فقال : استفهموه ، فلما اختلفوا كف عنه ، إذا لم يكن عزمة ، و لما رأوه من صواب رأي عمر ، ثم هؤلاء قالوا و يكون امتناع عمر إما إشفاقاً على النبي صلى الله عليه و سلم من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب ، أو تدخل عليه مشقة من ذلك ، كما قال : أن النبي صلى الله عليه و سلم اشتد به الوجع .
و قيل : خشي عمر أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ، و رأى أن الأفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد ، و حكم النظر ، و طلب الصواب ، فيكون المصيب و المخطيء مأجوراً .
و قد علم عمر تقرر الشرع ، و تأسيس الملة ، و أن الله تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم . و قوله صلى الله عليه و سلم أوصيكم بكتاب الله و عترتي .
و قول عمر : حسبنا كتاب الله رد على من نازعه ، لا على أمر النبي صلى الله عليه و سلم .
و قد قيل : إن عمر تطرق المنافقين و من في قلبه مرض لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة ، و أن يتقولوا في ذل ك الأقاويل ، كادعاء الرافضة الوصية و غير ذلك .
[ و قيل : إنه كان من النبي صلى الله عليه و سلم لهم على طريق المشورة و الاختيار . هل يتفقون على ذلك أم يختلفون ؟ فلما اختلفوا تركه ] .
و قالت طائفة أخرى : إن معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان مجيباً في هذا الكتاب لما طلب منه ، لا أنه ابتدأ بالأمر به ، بل اقتضاه منه بعض أصحابه ، فأجاب رغبتهم ، و كره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها .
و استدل في مثل هذه القصة بقول العباس لعلي : انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإن كان الأمر فينا علمناه ، و كراهة علي هذا ، و قوله : و الله لا أفعل ... الحديث .
و استدل بقوله : دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير ، أي الذي أنا فيه خير من إرسال الأمر و ترككم و كتاب الله . و أن تدعوني مما طلبتم .
و ذكر أن الذي طلب كتابه أمر الخلافة بعده ، و تعيين ذلك .
فصل
في وجه حديث .... إنما محمد بشر ...
فإن قيل : فما وجه حديثه أيضاً الذي حدثناه الفقيه أبو محمد الخشني بقراءتي عليه ، حدثنا أبو علي الطبري ، حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، قال : حدثنا إبراهيم بن سفيان ، حدثنا مسلم بن حجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا ليت ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن سالم مولى النصريين ، قال :سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول اللهم إنما محمد بشر [ 232 ] ، يغضب كما يغضب البشر ، و إني قداتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه ، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها كفارة له ، و قربه تقربه بها إليك يوم القيامة .
و في رواية : فأيم أحد دعوت عليه دعوة .
و في رواية : ليس لها بأهل . و في رواية : فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة و صلاة و رحمة .
و كيف يصح أن يلعن النبي صلى الله عليه و سلم من لا يستحق اللعن ، و يسب من لا يستحق السب ، و يجلد من لا يستحق الجلد ، أو يفعل مثل ذلك عند الغضب ، و هو معصوم عن هذا كله ؟ .
فاعلم شرح الله صدرك أن قوله صلى الله عليه و سلم أولاً : ليس لها بأهل ، أي عندك يا ر ب ، في باطن أمره ، فإن حكمه صلى الله عليه و سلم على الظاهر ، كما قال : و للحكمة التي ذكرناها ، فحكم صلى الله عليه و سلم بجلده ، أو أدبه بسبه أو لعنه بما افتضاه عنده حال ظاهره ، ثم دعا صلى الله عليه و سلم لشفقته على أمته ، و رأفته و رحمته له مؤمنين ، التي و صفه الله بها ، و حذره أن يتقبل الله فيمن دعا عليه دعوة أن يجعل دعاءه و لعنه له رحمة ، فهو معنى قوله : ليس لها بأهل ، لا أنه صلى الله عليه و سلم يحمله الغضب و يستفزه الضجر لأن يفعل مثل هذا بمن لا يستحقه من مسلم .
و هذا معنى صحيح ، و لا يفهم من قوله : أغضب كما يغضب البشر أن الغضب حمله على ما لا يجب فعله ، بل يجوز أن يكون المراد بهذا أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبه ، و أنه مما كان يحتمل و يجوز عفوه عنه ، أو كان مما خير بين المعاقبة فيه و العفو عنه .
و قد يحمل على أنه خرج مخرج الإشفاق و تعليم أمته الخوف و الحذر من تعدي حدود الله تعالى .
و قد يحمل ما ورد من دعائه هنا ، و من دعواته على غير واحد في غير موطن ، على غير العقد و القصد ، بل بما جرت به عادة العرب ، و ليس المراد بها الإجابة ، كقوله : تربت يمينك .
و لا أشبع ا لله بطنك . و وعقري حلقي . و غيها من دعواته .
و قد ورد في صفته في غير حديث أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن فحاشاً و قال أنس لم يكن سباباً ، و لا فاحشاً ، و لا لعاناً ، و كان يقول لأحدنا عند المعتبة ، ماله ! ترب جبينه ! .
فيكون حمل الحديث على هذا المعنى ، ثم أشفق صلى الله عليه و سلم من موافقة أمثالها إجابة ، فعاهد ربه ، كما قال في الحديث ، أن يجعل ذلك للمقول زكاة و رحمة و قربة .
و قد يكون ذلك إشفاقاً على المدعو عليه ، و تأنيساً له ، لئلا يلحقه من استشعار الخوف و الحذر من لعن النبي صلى الله عليه و سلم ، و تقبل دعائه ، ما يحمله على اليأس و القنوط .
و قد يكون ذلك سؤالاً منه لربه لمن جلده ، أو سبه على حق و بوجه صحيح أن يجعل ذلك له كفارة لما أصابه ، و تمحيه لما اجترم ، و أن تكون عقوبته له في الدنيا سبب العفو و الغفران ، كما جاء في الحديث الآخر : و من أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة .
فإن قلت : فما معنى حديث الزبير و قول النبي صلى الله عليه و سلم [ 233 ] حين تخاصمه مع الأنصاري في شراج الحرة : اسق يا زبير حتى يبلغ الكعبين . فقال له الأنصاري : إن كان ابن عمتك يا رسول الله ! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ثم قال : اسق يازبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر . . الحديث .
فالجواب أن النبي صلى الله عليه و سلم منزه أن يقع بنفس مسلم منه في هذه القصة أمر يريب ، و لكنه صلى الله عليه و سلم ندب الزبير أولاً إلى الاقتصار على بعض حقه على طريق التوسط و الصلح ، فلما لم يرض بذلك الآخر ، ولج و قال ما لا يجب استوفى النبي صلى الله عليه و سلم للزبير حقه .
و لهذا ترجم البخاري على هذا الحديث : باب . إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم .
و ذكر في آخر الحديث : فاستوعى رسول الله حينئذ للزبير حقه .
و قدجعل المسلمون هذا الحديث أصلاً في قضيته .
و فيه الاقتداء به صلى الله عليه و سلم في كل ما فعله في حال غضبه و رضاه ، و أنه و إن نهى أن يقضي القاضي و هو غضبان ، فإنه في حكمه في حال الغضب و الرضا سواء لكونه فيهما معصوماً . و غضب النبي صلى الله عليه و سلم في هذا إنما كان الله تعالى لا لنفسه، كما جاء في الحديث .
و كذلك الحديث في إقادته عكاشة من نفسه لم يكن لتعد حمله الغضب عليه ، بل و قع في الحديث نفسه أن عكاشة قال له : و ضربتني بالقضيب ، فلا أدري أعمد اً ، أم أردت ضرب الناقة ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أعيذك با الله يا عكاشة أن يتعمدك رسول الله .
و كذلك في حديثه الآخر مع الأعرابي حين طلب عليه السلام الاقتصاص منه ، فقال الأعرابي قد عفوت عنك . و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد ضربه بالسوط لتعلقه بزمام ناقته مرة بعد أخرى ، و النبي صلى الله عليه و سلم ينهاه و يقول له : تدرك حاجتك ، و هو يأبى ، فضربه بعد ثلاث مرات .
و هذا منه صلى الله عليه و سلم لمن لم يقف عند نهيه صواب و موضع أدب ، لكنه عليه الصلاة السلام :أشفق إذ كان حق نفسه من الأمر حتى عفا عنه .
و أما حديث سواد بن عمرو : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم و أنا متخلق ، فقال عليه الصلاة السلام : و رس ! و رس ! حط ، حط ! و غشيني بقضيب في يده في بطني فاوجعني .
قلت : القصاص يا رسول الله . فكشف لي عن بطنه.
و إنما ضربه صلى الله عليه و سلم لمنكر رآه به ، و لعله لم يرد بضربه بالقضيب إلا تنبيهه ، فلما كان منه إيجاع لم يقصده طلب التحلل منه على ما قدمنا .



فصل
في أفعاله . صلى الله عليه و سلم الدنيوية
و أما أفعاله صلى الله عليه و سلم الدنيوية فحكمه فيها من توفى المعاصي و المكروهات ما قد قدمناه ، و من جواز السهو الغلط في بعضها ما ذكرناه .
و كله غير قادح في النبوة ، بلى ، إن هذا فيها على الندور ، إذ عامة أفعاله على السداد و الصواب ، بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات و القرب على ما بينا إذ كان صلى الله عليه و سلم لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورتة ، و ما يقيم رمق جسمه ، و فيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ، و يقيم شريعته ، و يسوس أمته ، و ما كان فيما بينه و بين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه ، أو بر [ 234 ] يوسعه ، أو كلام حسن يقوله أو يسمعه ، أو تألف شارد ،أو قهر معاند ، أو مداراة حاسد ، و كل هذا لاحق بصالح أعماله ، متتظم في زاكي وظائف عباداته ، و قدكان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الحوال ، و يعد للأمور أشباهها ، فيركب في تصرفه لما قرب الحمار ، و في أسفاره الراحلة ، و يركب البغلة في معارك الحرب دليلاً على الثبات ، و يركب الخيل و يعدها ليوم الفزع و إجابه الصارخ .
و كذلك في لباسه و سائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه و مصالح أمته .
و كذلك يفعل الفعل في أمور الدنيا مساعدة لأمته و سياسة و كراهية لخلافها و إن كان قد يرى غيره خيراً منه ، كما يترك الفعل لهذا ، و قد يرى فعله خيراً منه و قديفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد و جهيه ، كخروجه من المدينة لاحد ، و كان مذهبه التحصن بها ، و تركه قتل المنافقين ، و هو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ، و رعاية للمؤمنين من قرابتهم ، و كراهة لأن يقول الناس : إن محمداً يقتل أصحابه ، كما جاء في الحديث ، و تركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب قريش و تعظيمهم لتغييرها ، و حذراً من نفار قلوبهم لذلك ، و تحريك متقدم عداوتهم للدين و أهله ، فقال لعائشة في الحديث الصحيح : لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم .
و يفعل الفعل ثم يتركه ، لكون غيره خيراً منه ، كانتقاله من أدنى مياه بدر إلى أقربها للعدو من قريش ، و قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي .
و بسط وجهه للكافر و العدو رجاء استئلافه .
و يصبر للجاهل ، رواية يقول كان إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره . و يبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته و دين ربه . و يتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته ، و يتسمت في ملئه ، حتى لا يبدو شيء من أطرافه ، و حتى كأن على رؤوس جلسائه الطير ، و يتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ، و يتعجب مما يتعجبون منه ، و يضحك مما يضحكون منه ، قد وسع الناس بشره و عدله ، لا يستفزه الغضب ، و لا يقصر عن الحق و لا يبطن على جلسائه ، يقول ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين .
فإن قلت : فما معنى قوله لعائشة رضي الله عنها في داخل عليه : بئس ابن العشيرة . فلما دخل ألان له القول و ضحك معه ، فلما سأله عن ذلك قال كان إن من شرالناس من اتقاه الناس لشره .
و كيف جاز أن يظهر لهما خلاف ما يبطن ، و يقول في ظهره ما قال ؟
فالجواب أن فعله صلى الله عليه و سلم كان استئلافاً لمثله ، و تطييباً لنفسه ، ليتمكن إيمانه ، و يدخل في الإسلام بسبب أتباعه ، و يراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام . و مثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية . و قد كان النبي يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟ .
قال صفوان : لقد أعطاني [ 235 ] و هو أبغض الخلق إيلي ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الخلق إلي .
و قوله فيه : بئس ابن العشيرة هو غير غيبة ، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ليحذر حاله ، و يحترز منه ، و لا يوثق بجانبه كل الثقة و لا سيما و كان مطاعاً متبوعاً .
و مثل هذا إذا كان لضرورة و دفع مضرة لم يكن بغيبة ، بل كان جائزاً ، بل واجباً في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة و المزكين في الشهود .
فإن قيل : فما معنى المفضل الوارد في حديث بريرة من قوله صلى الله عليه و سلم لعائشة ، و قد أخبرته أن موالي بريرة أبو بيعها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال صلى الله عليه و سلم : اشتريها و اشترطي لهم الولاء .
ففعلت ، ثم قام خطيباً ،فقال : ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل و النبي صلى الله عليه و سلم قد أمرها بالشرط لهم ، و عليه باعوها ، و لولاه و الله أعلم لما باعوها من عائشة ، كما لم يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ، ثم أبطله صلى الله عليه و سلم ، و هو قد حرم الغش و الخديعة .
فاعلم أكرمك الله أن النبي صلى الله عليه و سلم منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ، و لتنزيه النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة : قوله : اشتر لهم الولاء ، إذ ليست في أكثر طرق ا لحديث ، و مع ثباتها فلا اعتراض بها ، إذ يقع لهم بمعنى عليهم ، قال الله تعالى : أولئك لهم اللعنة . و قال : وإن أسأتم فلها [ سورة الإسراء /17، الآية : 7 ] .
فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ، و يكون قيام النبي صلى الله عليه و سلم و وعظه لما سلف من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك .
و وجه ثاني : أن قوله صلى الله عليه و سلم : اشترطي لهم الولاء ،ليس على معنى الأمر ، لكن على معنى التسوية و الإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعم بعد بيان النبي صلى الله عليه و سلم لهم قبل أن الولاء لمن أعتق ، فكأنه قال : اشترطي أو لا تشترطي ، فإنه شرط غير نافع .
و إلى هذا ذهب الداودي و غيره ، و توبيخ النبي صلى الله عليه و سلم لهم ، و تقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا .
الوجه الثالث : أن معنى قوله : اشترطي لهم الولاء ، أي أظهري لهم حكمه ، و بيني سنتة بأن الولاء إنما هو لمن أعتق . ثم بعد هذا قام هو صلى الله عليه و سلم مبيناً ذلك و موبخاً على مخالفة ما تقدم منه فيه .
فإن قيل : فما معنى فعل يوسف عليه السلام بأخيه ، إذ جعل السقاية في رحله و أخذه باسم سرقتها ، و ما جرى علىإخوته في ذلك و قوله تعالى : إنكم لسارقون ، و لم يسرقوا .
فاعلم أكرمك الله أن الآية تدل على أن فعل يوسف كان عن أمر الله ، لقوله تعالى : كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم [ سورة يوسف /12، الآية : 76 ] .
فإذا كان كذلك فلا اعتراض به ، كان فيه ما فيه .
و أيضاً فإن يوسف كان أعلم أخاه بأني أنا أخوك فلا تبتئس ، فكان ما جرى عليه بعد هذا من و فقه و رغبته ، و على يقين من عقبى الخير له به ، و إزاحة السوء و المضرة [ 236] عنه بذلك .و أما قوله : أيتها العير إنكم لسارقون ، فليس من قول يوسف . فيلزم عليه جواب لحل شبهه . و لعل قائله إن حسن له التأويل كائناً من كان ظن على صورة الحال ذلك و قد قيل قال ذلك لفعلهم قبل بيوسف و بيعهم له و قيل غير هذا : و لا يلزم أن نقول الأنبياء ما لم تأت انهم قالوه ، حتى يطلب الخلاص منه ، و لا يلزم الا عتزار عن زلات غيرهم .
فصل
بيان الحكمة في إجراء الأمراض و شدتها عليه و على غيره من الأنبياء
فإن قيل : فما الحكمة في إجراء الأمراض و شدتها عليه و على غيره من الأنبياء على
جميعهم السلام ؟ و ما الوجه فيما ابتلاهم الله به من البلاء ، وامتحانهم بما امتحنوا به كأيوب ، و يعقوب و دانيال ، و يحيى ، و زكريا ، و عيسى ، و إبراهيم ، و يوسف ، و غيرهم ، صلوات الله عليهم ، و هم خيرته من خلقه و احباؤه و أصفياؤه .
فاعلم وفقنا الله و إياك أن أفعال الله تعالى كلها عدل ، و كلماته جميعها صدق لا مبدل لكلماته ، يبتلي عباده كما قال تعالى لهم : لننظر كيف تعملون [ سورة يونس /10 ، الآية : 14] .
و ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ سورة هود / 49 ، الآية : 7 ] .
وليعلم الله الذين آمنوا [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 140] .
ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ سورة آل عمران /3، الآية : 142 ] .
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ سورة محمد /47، الآية : 31 ] .
فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة في مكانتهم ، و رفعه في درجاتهم ، و أسباب لاستخراج حالات الصبر و الرضا ، و الشكر و التسليم ، و التوكل ، و التفويض ، و الدعاء ، و التضرع منهم ، و تأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين ، و الشفقة على المبتلين ، و تذكرة لغيرهم ، و موعظة لسواهم ليتأسوا في البلاء بهم ، فيتسلوا في المحن بما جرى عليهم ، و يقتدوا بهم في الصبر ، و محو لهنات فرطت منهم ، أو غفلات سلفت لهم ، ليلقوا الله طيبين مهذبين ، و ليكون أجرهم أكمل ، و ثوابهم أوفر و أجزل .
حدثنا القاضي أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو الحسين الصيرفي و أبو الفضل ابن خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد ابن محبوب ، حدثنا أبو عيسى الترمزي ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه حدثنا قال : قلت يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة .
و كما قال تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين [ سورة آل عمران /3، الآيات : 146 ، 148] .
و عن أبي هريرة : ما يزال البلاء بالمؤمن و المؤمنة في نفسه و ولده و ماله حتى يلقى الله و ما عليه خطيئة .
و عن أنس ، عنه صلى الله عليه و سلم : إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، و إذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة .
و في حديث آخر إذا أحب الله عبداً ابتلاه ليسمع تضرعه .
و حكى السمرقندي أن كل من كان أكرم على الله تعالى كان بلاؤه أشد كي يتبين فضله ، و يتسوجب الثواب ، كما روي عن لقمان أنه قال : يابني ، الذهب و الفضة يختبران بالنار ، و المؤمن يختبر بالبلاء .
و قد حكي أن ابتلاء يعقوب بيوسف كان سببه التفاته في صلواته إليه ، و يوسف نائم محبة [ 237 ] له .
و قيل : بل اجتمع يوماً هو و ابنه يوسف على أكل حمل مشوي ، و هما يضحكان ، وكان لهم جار يتيم ، فشم ريحه و اشتهاه و بكى ، و بكت له جدة له عجوز لبكائه ، و بينهما جدار ، و لا علم عند يعقوب و ابنه ، فعوقب يعقوب بالبكاء أسفاً على يوسف إلى أن سالت حدقتاه ، و ابيضت عيناه من الحزن . فلما علم بذلك كان بقية حياته يأمر منادياً ينادي على سطحه : ألا من كان مفطراً فليتغذ عن آل يعقوب . و عوقب يوسف بالمحنة التي نص الله عليها .
و روى عن الليث أن سبب بلاء أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم فكلموه في ظلمه ، و أغلظوا له إلا أيوب ، فإنه رفق به مخافة على زرعه ، فعاقبه الله ببلائه .
و منحه سليمان لما ذكرناه من نيته في كون الحق في جنبه أصهاره ، أو للعمل بالمعصية في داره ، و لا علم عنده .
و هذه فائدة شدة المرض و الوجع بالنبي صلى الله عليه و سلم ، قالت عائشة : ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و عن عبد الله : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في مرضه ، يوعك و عكاً شديداً ،‍ قال : أجل ، إن أوعك كما يوعك رجلان منكم . قلت : ذلك أن الأجر مرتين ، قال : أجل ، ذلك كذلك .
و ف ي حديث أبي سعيد أن رجلاً وضع يده على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : و الله ما أطيق أضع يدي عليك من شدة حماك . فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء ، إن كان النبي ليبتلى بالقمل حتى يقتله ، و إن كان النبي ليبتل ى بالفقر ، و إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء .
و عن أنس ، عنه صلى الله عليه و سلم أن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، و إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، و من سخط فله السخط .
و قد قال المفسرون في قوله تعالى : من يعمل سوءا يجز به ، إن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة . و روى هذا عن عائشة و أبي ، و مجاهد .
و قال أبو هريرة ، عنه صلى الله عليه و سلم : من يرد الله به خيراً يصب منه .
و قال في رواية عائشة :ما من مصيبة تصيب المسلم إلا يكفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاركها .
و قال في رواية أبي سعيد : ما يصيب المؤمن من نصب و لا وصب ، و قيل و لا هم و لا حزن ، و لا أذى و لا غم ، حتى الشوكة يشاكلها إلا كفر الله بها من خطاياه .
و في حديث ابن مسعود : ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر .
و حكمة أخرى أودعها الله في الأمراض لأجسامهم ، و تعاقب الأوجاع عليها و شدتها عند مماتهم ، لتضعف قوى نفوسهم ، فيسهل خروجها عند قبضهم ، و تخف عليهم مؤنة النزع ، و شدة السكرات بتقدم المرض ، و ضعف الجسم و النفس لذلك .
و هذا خلاف موت الفجاء ة و أخذه ، كما يشاهد من اختلاف أحوال الموتى في الشدة و اللين ، و الصعوبة و السهولة . و قد قال صلى الله عليه و سلم : مثل المؤمن مثل خامة [ 238 ] الزرع تفيئها الريح هكذا و هكذا .
و في رواية أبي هريرة عنه : من حيث أتتها الريح تكفؤها ، فإذا سكنت اعتدلت ، و كذلك المؤمن يكفأ بالبلاء . و مثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمه الله .
معناه أن المؤمن مرزاً ، مصاب بالبلاء و الأمراض ، راض بتصريفه بين أقدار الله تعالى ، منطاع لذلك ، لين الجانب برضاه و قلة سخطه ، كطاعة خامة الزرع و انقيادها للرياح ، و تمايلها لهبوبها و ترتحها من حيث ما أتتها ، فإذا أزاح الله عن المؤمن رياح البلايا ، و اعتدل صحيحاً كما اعتدلت خامة الزرع عند سكون رياح الجو رجع إلى شكر ربه معرفة نعمته عليه بلائه ، منتظراً رحمته و ثوابه عليه .
فإذا كان بهذه السبيل لم يصعب عليه مرض الموت ، و لا نزوله ، و لا اشتدت عليه سكراته و نزعه ، لعادته بما تقدم من الآلام و معرفة ما له فيها من الأجر و توطينه نفسه على المصائب و رقتها و ضعفها بتوالي المرض أو شدته ، و الكافر بخلاف هذا ، معافى في غالب حاله ، ممتع بصحة جسمه ، كالأرز ة الصماء ، حتى إذا أراد الله هلاكه قصمه لحينه على غرة ، و أخذه بغتة من غير لطف و لا رفق ، فكان موته أشد عليه حسرة ، و مقاساة نزعه مع قوة نفسه و صحة جسمه أشد ألماً و عذاباً ، و لعذاب الآخرة أشد ، كانجعاف الأرزة . و كما قال تعالى : فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 95 ] .
و كذلك عادة الله تعالى في أعدائه ، كما قال تعالى : فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ، ففجأ جميعهم بالموت على حال عتو و غفلة و صبحهم به على غير استعداد بغتة ، و لهذا ما كره السلف موت الفجاءة .
و منه في حديث إبراهيم : كانوا يكرهون أخذة كأخذة الأسف : أي الغضب ، يريد موت الفجاءة . و حكمه ثالثة أن الأمراض نذير الممات ، و بقدر شدة الخوف من نزول الموت ، فيستعد من أصابته ، و علم تعاهدها له ، للقاء ربه ، و يعرض عن دار الدنيا الكثيرة الأنكاد ، و يكون قلبه معلقاً بالمعاد ، فيتنصل من كل ما يخشى تباعته من قبل الله ، و قبل العباد ، و يؤدي الحقوق إلى أهلها ، و ينظر فيما يحتاج إليه من وصية فيمن يخلفه أو أمر يعهده .
و هذا نبين ا صلى الله عليه و سلم المغفور له ما تقدم و ما تأخر ، قد طلب التنصل في مرضه ممن كان له عليه مال أو حق في بدن ، و أقاد من نفسه و ماله ، و أمكن من القصاص منه ، على ما ورد حديث في الفضل ، و حديث الوفاة ، و أوصى بالثقلين بعده : كتاب الله ، و عترته و بالأنصار عيبته ، و دعى إلى كتب كتاب لئلا تضل أمته بعده ، إما في النص على الخلافة ، أو الله أعلم بمراده . ثم رأى الإمساك عنه أفضل و خيراً .
و هكذا سيرة عباد الله المؤمنين و أوليائه المتقين .
و هذا كله يحرمه غالباً الكفار ، لإملاء الله لهم ، ليزدادوا إثماً ، و ليستدرجهم من حيث لا يعلمون ، قال الله تعالى : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون * فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون [ سورة يس / 36 ، الأيتان : 49 ، 50 ] .
و لذلك قال صلى الله عليه و سلم في رجل مات فجأة : سبحان الله ! كأنه على غضب ، المحروم من حرم وصيته . و قال : موت الفجأة راحة للمؤمن ، و أخذه أسف للكافر و الفاجر ، و ذلك لأن الموت يأتي المؤمن ، و هو غالباً مستعد له منتظر لحلوله ، فهان أمر عليه كيفما جاء ، و أقضى إلى راحته من نصب الدنيا و أذاها ، كما قال صل ى الله عليه و سلم : مستريح و مستراح منه . و تأتي الكافر و الفاجر منيته على غير استعداد و لا أهبة و لا مقدمات منذرة مزعجة ، بل تأتيهم بغتة فتبهتهم ، فلا يستطيعون ردها و لا هم ينظرون ، فكان الموت أشد شيء عليه .
و فراق الدنيا أفظع أمر صدمه ، و أكره شيء له ، و إلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه و سلم بقوله : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، و من كره لقاء الله كره الله لقاءه .

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:07 AM   #47
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




القسم الرابع
في تصرف وجوه الأحكام فيمن تنقصه أو سبه صلى الله عليه و سلم

قال القاضي أبو الفضل رضي الله عنه : قد تقدم من الكتاب و السنة و إجماع الأمة ما يجب من الحقوق للنبي صلى الله عليه و سلم ، و ما يتعين له من بر و توقير ، و تعظيم و إكرام ، و بحسب هذا حرم الله تعالى أذاه في كتابه ، و أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين و سابه ، قال الله تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 57 ] .
و قال تعالى : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 61 ] .
و قال الله تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 53 ] .
و قال تعالى : في تحريم التعريض به : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 104 ] .
و ذلك أن اليهود كانوا يقولون : راعنا يا محمد ، أي أرعنا سمعك ، و اسمع منا ، و يعرضون بالكلمة ، يريدون الرعونة ، فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم ، و قطع الذريعة بنهي المؤمنين عنها ، لئلا يتوصل بها الكافر و المنافق إلى سبه و الاستهزاء به .
و قيل : بل لما من مشاركة اللفظ ، لأنها عند اليهود بمعنى اسمع لا سمعت .
و قيل : بل لما فيها من قله الأدب ، و عدم توقير النبي صلى الله عليه و سلم و تعظيمه ، لأنها في لغة الأنصار بمعنى ارعنا نرعك ، فنهوا عن ذلك ، إذ مضمنه أنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، و هو صلى الله عليه و سلم واجب الرعاية بكل حال ، و هذا هو صلى الله عليه و سلم قد نهى عن التكني بكنيته ، فقال : تسموا باسمي ، و لا تكنوا بكنيتي ، صيانة لنفسه ، و حماية عن أذاه ، إذ كان صلى الله عليه و سلم استجاب لرجل نادى : يا أبا القاسم ، فقال : لم أعنك ، إنما دعوت هذا ، فنهى حينئذ عن التكني بكنيته لئلا يتأذى بإجابة دعوة غيره لمن لم يدعه ، و يجد بذلك المنافقون و المستهزئون ذريعة إلى أذاه دعوة غيره فينادونه ، فإذا التفت قالوا : إنما أردنا هذا لسواه تعنيتاً له ، و استخفافاً بحقه على عادة المجان و المستهزئين ، فحمى صلى الله عليه و سلم حمى أذاه [ 240 ] بكل وجه ، فحمل محققوا العلماء نهيه عن هذا على مدة حياته ، و أجازوه بعد وفاته لارتفاع العلة .
و للناس في هذا الحديث مذاهب ليس هذا موضعها ، و ما ذكرناه هو مذهب الجمهور ، و الصواب إن شاء الله . و إن ذلك على طريق تعظيمه و توقيره ، و على سبيل الندب و الاستحباب ، لا على التحريم ، و لذلك لم ينه عن اسمه ، لأنه قد كان الله منع من ندائه به بقوله : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ، و إنما كان المسلمون يدعونه برسول الله ، و بنبي الله ، و قد يدعوه بكنيته أبا القاسم بعضهم في بعض الأحوال .
و قد روى أنس رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه و سلم ، ما يدل على كراهة التسمي باسمه ، و تنزيهه عن ذلك ، إذا لم يوقر ، فقال : تسمون أولادكم محمداً ثم تلعنوهم .
و روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الكوفة : لايسمى أحد باسم النبي صلى الله عليه و سلم ، حكاه أبو جعفر الطبري .
[ و حكى محمد بن سعد أنه نظر إلى رجل اسمه محمد ، و رجل يسبه و يقول له : فعل الله بك يا محمد و صنع . فقال عمر لابن أخيه محمد بن زيد بن الخطاب : لا أرى محمداً صلى الله عليه و سلم يسب بك ، و الله لا تدعى محمداً ما دمت حياً ، و سماه عبد الرحمن ، و أراد أن يمنع أن يسم ى أحد بأسماء الأنبياء إكراماً لهم بذلك ، و غير أسماء جماعة تسموا بأسماء الأنبياء ، ثم أمسك ] .
و الصواب جواز هذا كله بعده صلى الله عليه و سلم ، بدليل إطباق الصحابة على ذلك .
و قد سمى جماعة منهم ابنه محمداً ، و كناه بأبي القاسم .
و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن في ذلك لعلي رضي الله عنه .
و قد أخبر صلى الله عليه و سلم أن ذلك اسم الهدي و كنيته .
[ و قد سمي به النبي صلى الله عليه و سلم محمد بن طلحة ، و محمد بن عمرو بن حزم ، و محمد بن ثابت بن قيس ، و غير واحد ، و قال : ما ضر أحدكم أن يكون في بيته محمد و محمدان و ثلاثة ] .
و قد فصلت الكلام في هذا القسم على بابين كما قدمناه :
الباب الأول : في بيان ما هو في حقه صلى الله عليه و سلم سب أو نقص ، من تعريض أو نص
اعلم وفقنا الله و إياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه و سلم ، أو عابه ، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه ، أو خصلة من خصاله ، أو عرض به ، أو شبهه بشيء على طريق السب له ، أو الإزراء عليه ، أو التصغير لشأنه ، أو الغض منه ، و العيب له ، فهو ساب له ، و الحكم فيه حكم الساب ، يقتل كما نبينه ، و لا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد ، و لا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً . و كذلك من لعنه أو دعا عليه ، أو تمنى مضرة له ، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم ، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام و هجر ، و منكر من القول و زور ، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء و المحنة عليه ، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة و المعهودة لديه .
و هذا كله إجماع من العلماء و أئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جراً .
و قال أبو بكر بن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه و سلم يقتل ، و ممن قال ذلك مالك بن أنس ، و الليث ، و أحمد ، و إسحاق ، و هو م ذهب الشافعي .
قال القاضي أبو الفضل : و هو مقتضى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، و لا تقبل توبته عند هؤلاء المذكورين :
و بمثله قال أبو حنيفة ، و أصحابه ، و الثوري و أهل الكوفة ، و الأوزاعي في المسلم ، لكنهم قالوا : هي ردة .
روى مثله الوليد بن مسلم عن مالك .
و حكى الطبري مثله عن أبي حنيفة و أصحابه فيمن تنقصه صلى الله عليه و سلم ، أو برئ منه أو كذبه .
و قال سحنون فيمن سبه : ذلك ردة كالزندقة .
و على هذا وقع الخلاف في استتابته و تكفيره ، و هل قتله حد أو كفر ، كما سنبينه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى ، و لا نعلم خلافاً في استباحة دمه بين علماء الأمصار و سلف الأمة ، و قد ذكر غير واحد الإجماع على قتله و تكفيره ، و أشار بعض الظاهرية و هو أبو محمد علي بن أحمد الفارسي إلى الخلاف في تكفير المستخف به .
و المعروف ما قدمناه ، قال محمد بن سحنون : أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه و سلم المتقص له كافر . و الوعيد جار عليه بعذاب الله ، و حكمه عند الأمة القتل ، و من شك في كفره و عذابه كفر .
و احتج إبراهيم بن حسين بن خالد الفق يه في مثل هذا بقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة لقوله عن النبي صلى الله عليه و سلم صاحبكم .
و قال أبو سليمان الخطابي : لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلماً .
و قال ابن القاسم عن مالك في كتاب ابن سحنون ، و المبسوط ، و العتبية ، و حكاه مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب : من سب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين قتل ، و لم يستتب .
قال ابن القاسم في العتبية : من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل ، و حكمه عند الأمة القتل كالزنديق .
و قد فرض الله تعالى توقيره و بره . و في المبسوط عن عثمان بن كنانة : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين قتل أو صلب حياً و لم يستتب و الإمام مخير في صلبه حياً أو قتله .
و من رواية أبي المصعب ، و ابن أبي أويس : سمعنا مالكاً يقول : من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أو شتمه ، أو عابة ، أو تنقصه قتل مسلماً كان أو كافراً ، و لا يستتاب .
و في كتاب محمد : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل و لم يستتب .
و قال أصبغ : يقتل على كل حال أسر ذلك أو ظهره ، و لا يستتاب ، لأن توبته لا تعرف .
و قال عبد الله بن الحكم : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو كافر قتل و لم يستتب .
و حكى الطبري مثله عن أشهب ، عن مالك .
و روى ابن وهب ، عن مالك : من قال : إن رداء النبي صلى الله عليه و سلم و يروى زر النبي صلى الله عليه و سلم وسخ ، أراد عيبه قتل .
قال بعض علمائنا : أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل ، أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة .
و أفتى أبو الحسن القابسي فيمن قال في النبي صلى الله عليه و سلم : الحمال يتيم أبي طالب [ 242 ] بالقتل .
و أفتى أبو محمد بن أبي زيد بقتل رجل سمع قوماً يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه و سلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه و اللحية ، فقال لهم : تريدون تعرفون صفته ، هي في صفة هذا المار في خلقه و لحيته . قال : و لا تقبل توبته .
و قد كذب لعنه الله ، و ليس يخرج من قلب سليم الإيمان .
و قال أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم كان أسود يقتل .
و قال في رجل قيل له : لا ، و حق رسول الله . فقال فعل الله برسول الله كذا و كذا و ذكر كلاماً قبيحاً ، فقيل له : ما تقول يا عدو الله ؟ فقال أشد من كلامه الأول ، ثم قال : إنما أردت برسول الله العقرب . فقال ابن أبي سليمان للذي سأله : اشهد عليه و أنا شريكك يريد في قتله و ثواب ذلك .
قال حبيب بن الربيع : لأن ادعاءه التأويل في لفظ صراح لا يقبل ، لأنه امتهان ، وهو غير معزز لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولا موقر له ، فوجب إباحة دمه .
وأفتى أبو عبد الله بن عتاب في عشار ، قال لرجل : أد واشك إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، و قال : إن سألت أو جعلت فقد جهل وسأل النبي صلى الله عليه و سلم بالقتل .
وأفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم المتفقه الطليطلي و صلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه و سلم وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم ، وختن حيدرة ، و زعمه أن زهده لم يكن قصداً ، و لو قدر على الطيبات أكلها ، إلى أشباه لهذا .
و أفتى فقهاء القيروان و أصحاب سحنون بقتل إبراهيم الفزاري ، و كان شاعراً متفننا في كثير من العلوم ، و كان ممن يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن طالب للمناظرة ، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله وأنبيائه ونبينا صلى الله عليه و سلم ، فأحضر له القاضي يحيى بن عمر وغيره من الفقهاء ، وأمر بقتله وصلبه ، فطعن بالسكين ، وصلب منكسا ، ثم أنزل وأحرق بالنار .
وحكى بعض المؤرخين أنه لما رفعت خشبته ، و زالت عنها الأيدي استدارت ، و حولته عن القبلة ، فكان آية للجميع ، و كبر الناس ، و جاء كلب فولغ في دمه ، فقال يحيى بن عمر : صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ذكر حديثاً عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يلغ الكلب في دم مسلم .
و قال القاضي أبو عبد الله بن المرابط : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم هزم يستتاب ، فإن تاب و إلا قتل ، لأنه تنقص ، إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته ، إذ هو على بصيرة من أمره ، ويقين من عصمته .
و قال حبيب بن ربيع القروي : مذهب مالك و أصحابه أن من قال فيه صلى الله عليه و سلم : ما فيه نقص قتل دون استتابة .
و قال ابن عتاب : الكتاب و السنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه و سلم بأذى أو نقص ، معرضاً أو مصرحاً ، و إن قل فقتله واجب ، فهذا الباب كله مما عده ا لعلماء سباً أو تنقصاً يجب قتل قائله ، لم يختلف في ذلك متقدمهم ولا متأخرهم ، و إن اختلفوا في حكم قتله على ما أشرنا إليه [ 243 ] و نبيه بعد .
و كذلك أقول حكم من غمصه أو عيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر ، أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه ، أو أذى من عدوه ، أو شدة من زمنه ، أو بالميل إلى نسائه ، فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه القتل .
و قد مضى من مذاهب العلماء في ذلك ، و يأتي ما يدل عليه .



فصل
في الحجة في إيجاب قتل من سبه أو عابه صلى الله عليه و سلم
فمن القرآن لعنه تعالى لمؤذ به في الدنيا و الآخرة ، و قرانه تعالى أذاه بأذاه ، و لا خلاف في قتل من سب الله ، و أن اللعن إنما يستوجبه من هو كافر ، و حكم الكافر القتل ، فقال : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 57 ] .
و قال في قاتل المؤمن مثل ذلك ، فمن لعنته في الدنيا القتل ، قال الله تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 60 ، 61 ] .
و قال في المحاربين ، و ذكر عقوبتهم إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 33 ] .
و قد يقع القتل بمعنى اللعن ، قال الله تعالى : قتل الخراصون . و قاتلهم الله أنى يؤفكون ، أي لعنهم الله ، و لأنه فرق بين أذاهما و أذى المؤمنين ، و في أذى المؤمنين ما دون القتل ، من الضرب و النكال ، فكان حكم مؤذي الله و نبيه أشد من ذلك ، و هو القتل . و قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ سورة النساء / 4 ، الآية : 65 ] .
فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجاً من قضائه ، و لم يسلم له ، و من تنقضه فقد ناقض هذا .
و قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 2 ] .
و لا يحبط العمل إلا الكفر ، و الكافر يقتل .
و قال تعالى : وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ثم قال : حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير [ سورة المجادلة / 58 ، الآية : 8 ] .
و قال تعالى : ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن . ثم قال : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 61 ] .
و قال تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 65 ، 66 ] .
قال أهل التفسير : كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و أما الإجماع فقد ذكرناه .
و أما الآثار فحدثنا الشيخ أبو عبد الله أحمد بن غلبون ، عن الشيخ أبي ذر الهروي إجازة ، قال : حدثنا أبو الحسن الدار قطني ، و أبو عمر ابن حيوة ، حدثنا محمد بن نوح ، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة ، حدثنا عبد الله بن موسى بن جعفر ، عن علي بن موسى ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن الحسين بن علي ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من سب نبينا فاقتلوه ، و من سب أصحابي فاضربوه .
و في الحديث الصحيح : أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل كعب ابن الأشرف . و قوله : من لكعب بن الأشرف ! فإنه يؤذي الله و رسوله . و وجه إليه من قتله غيلة دون دعوة ، بخلاف غيره من المشركين ، و علل قتله بأذاه له ، فدل أن قتله إياه لغير الإشراك ، بل للأذى .
و كذلك قتل أبا رافع ، قال البراء : و كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و يعين عليه .
و كذلك أمره يوم الفتح بقتل ابن خطل [ 244 ] و جاريته اللتين كانتا تغنيان بسبه صلى الله عليه و سلم .
و في حديث آخر أن رجلاً كان يسبه صلى الله عليه و سلم ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال خالد : أنا . فبعثه صلى الله عليه و سلم فقتله .
و كذلك لم يقل جماعة ممن كان يؤذيه من الكفار و يسبه ، كالنضر بن الحارث ، و عقبة بن أبي معيط .
و عهد بقتل جماعة منهم قبل الفتح و بعده ، فقتلوا إلا من بادر بإسلامه قبل القدرة عليه .
و قد روى البزار ، عن ابن عباس أن عقبة بن أبي معيط نادى : يا معشر قريش ، مالي أقتل من بينكم صبراً ! فقال له صلى الله عليه و سلم : بكفرك و افترائك على رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و ذكر عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه و سلم سبه رجل ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال الزبير : أنا ، فبارزه فقتله الزبير .
و روى أيضاً أن امرأة كانت تسبه صلى الله عليه و سلم ، فقال : فقال : من يكفيني عدوي ؟ فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها .
و روى أن رجلاً كذب على النبي صلى الله عليه و سلم ، فبعث علياً و الزبير إليه ليقتلاه .
و روى ابن قانع أن رجلاً جاء إلى النبي صل ى الله عليه و سلم ، فقال : يا رسول الله ، سمعت أبي يقول فيك قولاً قبيحاً فقتلته ! فلم يشق ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم .
و بلغ المهاجر بن أبي أمية أمير اليمن لأبي بكر رضي الله عنه أن امرأة هناك في الردة غنت بسب النبي صلى الله عليه و سلم فقطع يدها ، و نزع ثنيتها ، فبلغ أبا بكر رضي الله عنه ذلك ، فقال له : لولا ما فعلت لأمرتك بقتلها ، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود . و عن ابن عباس : هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : من لي بها ؟ فقال رجل من قومها : أنا رسول الله . فنهض فقتلها ، فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : لا ينتطح فيها عنزان .
و عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تسب النبي صلى الله عليه و سلم فيزجرها فلا تنزجر ، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه و سلم و تشتمه ، فقتلها ، و أعلم النبي صلى الله عليه و سلم بذلك ، فأهدر دمها .
و في حديث أبي برزة الأسلمي : كنت يوماً جالساً عند أبي بكر الصديق ، فغضب على رجل من المسلمين و حكى القاضي إسماعيل و غير واحد من الأئمة في هذا الحديث أنه سب أبا بكر .
و رواه النسائي : أتيت أبا بكر ، و قد أغلظ لرجل فرد عليه ، قال : فقلت : يا خليفة رسول الله ، دعني أضرب عنقه . فقال : اجلس ، فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم .
قال القاضي أبو محمد بن نصر : و لم يخالف عليه أحد ، فاستدل الأئمة بهذا الحديث على قتل من أغضب النبي صلى الله عليه و سلم بكل ما أغضبه أو أذاه أو سبه .
و من ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة ، و قد استشاره في قتل رجل سب عمر رضي الله عنه ، فكتب إليه عمر : إنه لا يحل قتل امرئ مسلم بسب أحد من الناس إلا رجلاً سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فمن سبه [ 245 ] فقد حل دمه .
و سأل الرشيد مالكاً في رجل شتم النبي صلى الله عليه و سلم ، و ذكر له أن فقهاء العراق أفتوه بجلده ، فغضب مالك ، و قال : يا أمير المؤمنين ، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها ! من شتم الأنبياء قتل ، و من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم جلد .
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى : كذا وقع في هذه الحكاية ، رواها غير واحد من أصحاب مناقب مالك و مؤلفي أخباره و غيرهم ، و لا أدري من هؤلاء الفقهاء بالعراق الذين أفتوا الرشيد بما ذكر ! و قد ذكرنا مذهب العراقيين يقتله ، و لعلهم ممن لم يشهر بعلم ، أو من لا يوثق بفتواه ، أو يميل به هواه ، أو يكون ما قاله يحمل على غير السب ، فيكون الخلاف : هل هو سب أو غير سب ؟ أو يكون رجع و تاب من سبه ، فلم يقله لمالك على أصله ، و إلا فالإجماع على قتل من سبه كما قدمناه .
و يدل على قتله من جهة النظر و الاعتبار أن من سبه أو تنقصه صلى الله عليه و سلم فقد ظهرت علامة مرض قلبه ، و برهان سر طويته و كفره ، و لهذا ما حكم له كثير من العلمء بالردة ، و هي رواية الشاميين عن مالك و الأوزاعي ، و قول الثوري ، و أبو حنيفة ، و الكوفيين .
و القول الآخر أنه دليل على الكفر فيقتل حداً ، و إن لم يحكم له بالكفر إلا أن يكون متمادياً على قوله ، غير منكر له ، و لا مقلع عنه ، فهذا كافر ، و قوله : إما صريح كفر كالتكذيب و نحوه ، أو من كلمات الاستهزاء و الذم ، فاعترافه بها و ترك توبته عنها دليل استحلاله لذلك ، و هو كفر أيضاً ، فهذا كافر بلا خلاف ، قال الله تعالى في مثله : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 74 ] .
قال أهل التفسير : هي قول هم : إن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من الحمير .
و قيل : قول بعضهم : ما مثلنا و مثل محمد إلا قول القائل : سمن كلبك يأكلك ، و لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأغر منها الأذل .
و قد قيل إن قائل مثل هذا إن كان مستتراً به إن حكمه حكم الزنديق يقتل ، و لأنه قد غير دينه ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : من غير دينه فاضربوا عنقه ، و لأن لحكم النبي صلى الله عليه و سلم في الحرمة مزية على أمته ، و ساب الحر من أمته يحد ، فكانت العقوبة لمن سبه صلى الله عليه و سلم القتل ، لعظيم قدره ، و شفوف منزلته على غيره .
فصل
لم لم يقتل النبي اليهودي الذي قال له : السام عليكم ؟
فإن قلت : فلم لم يقتل النبي صلى الله عليه و سلم اليهودي الذي قال له : السام عليكم، و هذا دعاء عليه ، و لا قتل الآخر الذي قال له : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، و قد تأذى النبي صلى الله عليه و سلم من ذلك ، و قال : قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ، و لا قتل المنافقين الذين كانوا يؤذونه في أكثر الأحيان .
فاعلم وفقنا الله و إياك أن النبي صلى الله عليه و سلم كان أول الإسلام يستألف عليه الناس و يميل قلوبهم ، و يحبب إليهم الإيمان ، و يزينه في قلويهم و يداريهم ، و يقول لأصحابه : إنما بعثتم مبشرين و لم تبعثوا منفرين .
و يقول : يسروا و لا تعسروا ، و سكنوا و لا تنفروا .
و يقول [246 ] : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه .

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:08 AM   #48
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




و كان صلى الله عليه و سلم يداري الكفار و المنافقين ، و يجمل صحبتهم ، و يغضي عنهم ، و يحتمل من أذاهم و يصبر على جفائهم ما لا يجوز لنا اليوم الصبر لهم عليه ، و كان يرفقهم بالعطاء و الإحسان ، و بذلك أمره الله تعالى ، فقال تعالى : ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصف ح إن الله يحب المحسنين [ سورة المائدة /5، الآية : 13] .
و قال تعالى : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ سورة فصلت /41 ، الآية :34 ] .
و ذلك لحاجة الناس للتألف أول الإسلام ، و جمع الكلمة عليه ، فلما استقر و أظهره الله على الدين كله قتل من قدر عليه ، و اشتهر أمره ، كفعله بابن خطل ، و من عهد بقتله يوم الفتح ، و من أمكنه قتله غيلة من يهود و غيرهم ، أو غلبه ممن لم ينظمه قبل سلك صحبته ، و الانخراط في جملة مظري الإيمان له ممن كان يؤذيه ، كابن الأشرف ، و أبي رافع ، و النضر ، و عقبة .
و كذلك نذر دم جماعة سواهم ، ككعب بن زهير ، و ابن الزبعري و غيرهما ممن آذاه حتى ألقوا بأيديهم ، و لقوه مسلمين .
و بواطن المنافقين مستترة ، و حكمه صلى الله عليه و سلم على الظاهر ، و أكثر تلك الكلمات إنما كان يقولها القائل منهم خفية و مع أمثاله ، و يحلفون عليها إذا نميت ، و ينكرونها ، و يحلفون با الله ما قالوا ، و لقد قالوا كلمة الكفر ، و كان مع هذا يطمع في فيئتهم ، و رجوعهم إلى الإسلام و توبتهم ، فيصبر صلى الله عليه و سلم على هناتهم و جفوتهم ، كما صبر أولوا العزم من الرس ل حتى فاء كثير منهم باطناً ، كما فاء ظاهراً ، و أخلص سراً كما أظهر جهراً ، و نفع الله بعد بكثير منهم ، و قام منهم للدين و زراء و أعوان و حماة و انصار كما جاءت به الأخبار .
و بهذا أجاب بعض أئمتنا رحمهم الله عن هذا السؤال .
و قال : لعله لم يثبت عنده صلى الله عليه و سلم من أقوالهم ما رفع ، وإنما نقله الواحد و من لم يصل رتبة الشهادة في مثل هذا الباب ، من صبي أو عبد أو امرأة ، و الدماء لا تستباح إلا بعدلين .
و على هذا يحمل أمر اليهود من السلام ، و أنهم لووا ألسنتهم ، و لم يبينوه ، ألا ترى كيف نبهت عليه عائشة ، و لوكان صرح بذلك لم تنفرد بعلمه ، و لهذا نبه النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه على فعلهم ، و قلة صدقهم في سلامهم ، و خيانتهم في ذلك لياً بألسنتهم ، و طعناً في الدين ، فقال : إن اليهود إذا سلم أحدهم فإنما يقول : السام عليكم ، فقولوا : عليكم .
و كذلك قال بعض أصحابنا البغداديين : إن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقتل المنافقين بعلمه فيهم ، و لم يأت أنه قامت بينة على نفاقهم ، فلذلك تركهم .
و أيضاً فإن الأمر كان سراً و باطناً ، و ظاهرهم الإسلام و الإيمان ، و إن كان من أهل الذمة بالعهد و الجوار ، و الناس قريب عهدهم بالإسلام ، و لم يتميز بعد الخبيث من الطيب .
و قد شاع عن المذكورين في العرب كون من يتهم بالنفاق من جملة المؤمنين و صحابة سيد المرسلين ، و أنصار الدين بحكم ظاهرهم ، فلو قتلهم النبي صلى الله عليه و سلم لنفاقهم و ما يبدر منهم ، و علمه بما أسروا [ 247 ] في أنفسهم لوجد المنفر ما يقول ، و لارتاب الشارد ، و أرجف المعاند ، و ارتاع من صحبه النبي صلى الله عليه و سلم ، و الدخول في الإسلام غير واحد ، و لزعم الزاعم ، و ظن العدو الظالم أن القتل إنما كان للعداوة و طلب أخذ الترة .
و قد رأيت معنى ما حررته منسوباً إلى مالك بن أنس رحمه الله ، ولهذا قال صلى الله عليه و سلم لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه . و قال : أؤلئك الذين نهاني الله عن قتلهم .
و هذا بخلاف إجراء الأحكام الظاهرة عليهم من حدود الزنا و القتل و شبهه ، لظهورها و استواء الناس في علمها .
و قد قال محمد بن المواز : لو أظهر المنافقون نفاقهم لقتلهم النبي صلى الله عليه و سلم ، و قاله القاضي أبو الحسن بن القصار .
و قال قتادة في تفسير قوله تعالى : لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا [ سورةالأحذاب /33 ، الآية : 60 ، 62 ] .
قال : معناه إذا أظهروا النفاق .
و حكى محمد بن مسلمة في المبسوط ، عن زيد بن أسلم أن قوله تعالى : يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ، نسخها ما كان قبلها .
و قال بعض مشايخنا : لعل القائل : هذه قسمة ما أريد وجه الله : و قوله : اعدل لم يفهم النبي صلى الله عليه و سلم منه الطعن عليه و التهمة له ، و إنما رآها من وجه الغلط في الرأي ، و أمور الدنيا و الاجتهاد في مصالح أهلها ، فلم ير ذلك سباً ، و رأى أنه من الأذى له العفو عنه و الصبر عليه ، فلذلك لم يعاقبه .
و كذلك يقال في اليهود إذا قالوا : السام عليكم ليس فيه صريح سب و لا دعاء إلا بما لا بد منه من الموت الذي لا بد من لحاقه جميع البشر .
و قيل : بل المراد تسأمون دينكم . و السأم و السآمة : الملال .
و هذا دعاء على سآمة الدين ليس بصريح سب ، و لهذا ترجم البخاري على هذا الحديث ، باب إذا عرض الذمي أو غيره بسبب النبي صلى الله عليه و سلم .
قال بعض علمائنا : و ليس هذا بتعريض بالسب ، و إنما هو تعريض بالأذى .
قال القاضي أبو الفضل : قد قدمنا أن الأذى و السب في حقه صلى الله عليه و سلم سواء .
و قال القاضي أبو محمد بن نصر مجيباً عن هذا الحديث ببعض ما تقدم ، ثم قال : و لم يذكر في الحديث : هل كان هذا اليهودي من أهل العهد و الذمة أو الحرب ، و لا يترك موجب الدلة للأمر المحتمل .
و الأولى في ذلك كله و الأظهر من هذه الوجوه مقصد الاستئلاف و المدارة على الدين لعلهم يؤمنون .
و لذلك ترجم البخاري على حديث القسمة و الخوارج : باب من ترك قتال الخوارج للتألف .
و لئلا ينفر الناس عنه ، و لما ذكرنا معناه عن مالك ، و قررناه قبل .
و قد صبر لهم صلى الله عليه و سلم على سحره و سمه ، و هو أعظم من سبه إلى أن نصره الله عليهم ، و أذن له في قتل من حينه منهم و إنزالهم من صياصيهم ، و قذف في قلوبهم الرعب ، وكتب [ 248 ] على من شاء منهم الجلاء ، و أخرجهم من ديارهم ، و خرب بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين ، و كاشفهم بالسب ، فقال : يا إخوةالقردة و الخنازير ، و حكم فيهم سي وف المسلمين ، و أجلا هم من جوارهم [ و أورثهم أرضهم و ديارهم و أموالهم ، لتكون كلمة الله هي العليا و كلمة الذين كفروا السفلى ] .
فإن قلت : فقد جاء في الحديث الصحيح ، عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه و سلم ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط ، إلا أن تنتهك حرمة الله ، فينتقم لله .
فاعلم أن هذا لا يقتضي أنه لم ينتقم ممن سبه أو آذاه أو كذبه ، فإن هذه من حرمات الله التي انتقم لها ، و إنما يكون ما لا ينتقم له فيما تعلق بسوء أدب أو معاملة من القول أو الفعل بالنفس و المال مما لم يقصد فاعله به أذاه ، لكن مما جبلت عليه الأعراب من الجفاء ، و الجهل ، أو جبل عليه البشر من الغفلة ، كجبذ الأعرابي بإزاره حتى أثر في عنقه ، و كرفع صوت الآخر عنده ، و كحجد الأعرابي شراءه منه فرسه التي شهد فيها خزيمة ، و لما كان من تظاهر زوجيه عليه ، و أشباه هذا مما يحسن الصفح عنه .
[ و قد قال بعض علمائنا : إن أذى النبي صلى الله عليه و سلم حرام لا يجوز بفعل مباح و لا غيره .
و أما غيره فيجوز بفعل مباح ما لا يجوز للإنسان فعله ، و إن تأذى به غيره . و احتج بعموم قوله تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ، و بقوله صلى الله عليه و سلم في حديث فاطمة : إنها بضعة مني ، يؤذيني ما يؤذيها ، ألا و إني لا أحرم ما أحل الله ، و لكن لا تجتمع ابنة رسول الله و ابنة عدو الله عند رجل أبداً ] أو يكون هذا مما آذاه به كافر و جاء بعد ذلك إسلامه ، كعفوه عن اليهودي الذي سحره ، و عن الأعرابي الذي أراد قتله ، و عن اليهودية التي سمته ، و قد قيل : قتلها .
و مثل هذا مما يبلغه من أذى أهل الكتاب و المنافقين ، فصفح عنهم رجاء استئلافهم و استئلاف غيرهم كما قررناه قبل ، و بالله التوفيق .
فصل
الوجه الثاني : إذا كان غير قاصد للسب ..
تقدم الكلام في قتل القاصد لسبه و الإزراء به ، و غمصه بأي وجه كان من ممكن أو محال ، فهذا وجه بين لا إشكال فيه .
الوجه الثاني لاحق به في البيان و الجلاء ، و هو أن يكون القائل لما قال في جهته صلى الله عليه و سلم غير قاصد للسب و الإزراء ، و لا معتقد له ، و لكنه تكلم في جهته صلى الله عليه و سلم بكلمة الكفر ، من لعنه أو سبه أو تكذيبه أو إضافة ما لا يجوز عليه ، أو نفى ما يجب له مما هو في حقه صلى الله عليه و سلم نقيصة ، مثل أن ينسب إليه إتيان كبيرة ، أو مداهنة في تبليغ الرسالة ، أو في حكم بين الناس ، أو يغض من مرتبته ، أو شرف نسبه ، أو وفور علمه أو زهده ، أو يكذب بما اشتهر من أمور أخبر بها صلى الله عليه و سلم و تواتر الخبر بها عنه عن قصد لرد خبره ، أو يأتى بسفه من القول ، و قبيح من الكلام ، و نوع من السب في جهته ، و إن ظهر بدليل حاله أنه لم يعتمد ذمه ، و لم يقصد سبه ، إما لجهالة حملته على ما قاله ، أو لضجر أو سكر اضطره إليه ، أو قلة مراقبة و ضبط للسانه و عجرفة و تهور في كلامه ، فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول القتل دون تلعثم ، إذ لا يعذر أحد في ا لكفر بالجهالة ، و لا بدعوى زلل اللسان ، و لا بشيء مما ذكرناه ، إذ كان عقله في فطرته سليماً ، إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان .
و بهذا أفتى الأندلسيون على ابن حاتم في نفيه الزهد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي قدمناه .
و قال محمد بن سحنون في المأسور يسب النبي صلى الله عليه و سلم في أيدي العدو : يقتل إلا أن يعلم تنصره أو إكراهه .
و عن [ 249 ] أبي محمد بن أبي زيد : لا يعذر بدعوى زلل اللسان في مثل هذا .
و أفتى أبو الحسن القابسي فيمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم في سكره : يقتل ، لأنه يظن به أنه يعتقد هذا و يفعل في صحوه .
و أيضاً فإنه حد لا يسقطه السكر ، كالقذف ، و القتل ، و سائر الحدود ، لأنه أدخله على نفسه ، لأن من شرب الخمر على علم من زوال عقله بها ، و إتيان ما ينكر منه ، فهو كالعامد لما بسببه .
و على هذا ألزمناه الطلاق و العتاق ، و القصاص و الحدود .
و لا يعترض على هذا بحديث حمزة و قوله للنبي صلى الله عليه و سلم : و هل أنتم إلا عبيد لأبي ! .
قال : فعرف النبي صلى الله عليه و سلم أنه ثمل فانصرف ، لأن الخمر كانت حنيئذ غير محرمة ، فلم يكن في جناياتها إثم ، و ك ان حكم ما يحدث عنها معفواً عنه كما يحدث من النوم و شرب الدواء المأمون .
فصل
الوجه الثالث أن يقصد إلى تكذيبه فيما قاله و أتى به ..
الوجه الثالث أن يقصد إلى تكذيبه فيما قاله و أتى به ، أو ينفي نبوته أو رسالته ، أو وجوده ، أو يكفر به ، انتقل بقوله ذلك إلى دين آخر غير ملته أم لا ، فهذا كافر بإجماع ، يجب قتله ، ثم ينظر فإن كان مصرحاً بذلك كان حكمه أشبه بحكم المرتد ، و قوي الخلاف في استتابته .
و على القول الآخر لا يسقط عنه توبته لحق النبي صلى الله عليه و سلم ، إن كان ذكره بنقيصة فيما قاله من كذب أو غيره ، و إن كان مستسراً بذلك فحكمه حكم الزنديق لا تسقط قتله التوبة عندنا كما سنبينه .
قال أبو حنيفة و أصحابه : من بريء من محمد ، أو كذب به ، فهو مرتد حلال الدم إلا أن يرجع .
و قال ابن القاسم في المسلم إذا قال : إن محمداً ليس بنبي ، أو لم يرسل ، أو لم ينزل عليه قرآن ، و إنما هو شيء تقوله : يقتل .
قال : و من كفر برسول الله صلى الله عليه و سلم و أنكره من المسلمين ، فهو بمنزلة المرتد ، و كذلك من أعلى بتكذيبه أنه كالمرتد يستتاب .
و كذلك قال فيمن تنبأ ، و زعم أنه يوحى إليه ، و قاله سحنون .
قال ابن القاسم : دعا إلى ذلك سراً و جهراً .
قال أصبغ : و هو كالمرتد ، لأنه قد كفر بكتاب الله مع الفرية على الله .
و قال أشهب في يهودي تنبأ أو زعم أنه أرسل إلى الناس ، أو قال : بعد نبيكم نبي أنه يستتاب إن كان معلنا بذلك ، فإن تاب و إلا قتل ، و ذلك لأنه مكذب للنبي صلى الله عليه و سلم في قوله ، لا نبي بعدي ، مفتر على الله في دعواه عليه الرسالة و النبوة .
و قال محمد بن سحنون : من شك في حرف مما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم عن الله فهو كافر جاحد .
و قال : من كذب النبي صلى الله عليه و سلم كان حكمه عند الأمة القتل .
و قال أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم أسود قتل ، لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم بأسود .
و قال نحوه أبو عثمان الحداد ، قال : لو قال : إنه مات قبل أن يلتحي ، أو إنه كان بتاهرت و لم يكن بتهامة قتل ، لأن هذا نفي .
قال حبيب بن ربيع تبديل صفته و مواضعه كفر ، و المظهر [ 250 ] له كافر ، و فيه الاستتابة و المسر له زنديق ، يقتعل دون استتابة .
فصل
الوجه الرابع أن يأتي من الكلام بمجمل و يلفظ من القول بمشكل يمكن حمله على النبي أو غيره ..
الوجه الرابع أن يأتي من الكلام بمجمل ، و بلفظ من القول بمشكل يمكن حمله على النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره ، أو يتردد في المراد به من سلامته من المكروه أو شره ، فها هنا متردد النظر و حيرة العبر ، و مظنة اختلاف المجتهدين ، و وقفة استبراء المقلدين ، ليهلك من هلك عن بينة ، و يحيى من حي عن بينة ، فمنهم من غلب حرمة النبي صلى الله عليه و سلم ، و حمى حمى عرضه ، فجسر على القتل ، و منهم من عظم حرمة الدم ، و درأ الحد بالشبهة لاحتمال القول .
و قد اختلف أئمتنا في رجل أغضبه غريمه ، فقال له : صل على النبي محمد ، فقال له الطالب : لا صلى الله على من صلى عليه ، فقيل لسحنون : هل هو كمن شتم النبي صلى الله عليه و سلم ، أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه ، قال : لا ، إذا كان على ما وصفت من الغضب ، لأنه لم يكن مضمراً الشتم .
و قال أبو إسحاق البرقي ، و أصبغ بن الفرج : لا يقتل ، لأنه إنما شتم الناس ، و هذا نحو قول سحنون : لأنه لم يعذره بالغضب في شتم النبي صلى الله عليه و سلم ، و لكنه لما احتمل الكلام عنده ، و لم تكن معه قرينة على شتم النبي صلى الله عليه و سلم ، أو شتم الملائكة صلوات الله عليهم ، و لا مقدمة يحمل عليها كلامه ، بل القرينة تدل على أن مراده الناس غير هؤلاء ، لأجل قول الآخر له : صل على النبي ، فحمل قوله و سبه لمن يصلي عليه الأن لأجل أمر الآخر له بهذا عند غضبه .
هذا معنى قول سحنون ، و هو مطابق لعلة صاحبيه .
و ذهب الحارث بن مسكين القاضي و غيره في مثل هذا إلى القتل .
و توقف أبو الحسن القابسي في قتل رجل قال : كل صاحب فندق قرنان ، و لو كان نبياً مرسلاً ، فأمر بشده بالقيود و التضييق عليه حتى تستفهم البينة عن جملة ألفاظه ، و ما يدل على مقصده ، هل أراد أصحاب الفنادق الآن فمعلوم أنه ليس فيهم نبي مرسل ، فيكون أمره أخف .
قال : و لتكن ظاهر لفظه العموم لكل صاحب فندق من المتقدمين و المتأخرين . و قد كان فيمن تقدم من الأنبياء و الرسل من اكتسب المال .
قال : و دم المسلم لا يقدم عليه إلا بأمر بين . و ما ترد إليه التأويلات لا بد من إنعام النظر فيه . هذا معنى كلامه .
و حكي عن أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله فيمن قال : لعن الله العرب ، و لعن الله بني إسرائيل ، و لعن الله بني آدم ، و ذكر أنه لم يرد الأنبياء ، و إنما أردت الظالمين منهم إن عليه الأدب بقدر إجتهاد السلطان .
و كذلك أفتى فيمن قال : لعن الله من حرم المسكر ، و قال : لم أعلم من حرمه .
و فيمن لعن حديث : لا يبع حاضر لباد . و لعن من جاء به إنه إن كان يعذر بالجهل و عدم معرفة السنن فعليه الأدب الوجيع ، و ذلك أن هذا لم يقصد بظاهرة حاله سب الله و لا سب رسوله ، و إنما لعن من حرمه من الناس على نحو فتوى سحنون و أصحابه في المسألة المتقدمة .
و مثل هذا ما يجري في كلام سفهاء الناس [ 251 ] في قول بعضهم لبعض : يا بن ألف خنزير ، و ابن مائة كلب ، وشبهه من هجر القول .
و لا شك أنه يدخل في مثل هذا العدد من آبائه و أجداده جماعة من الأنبياء ، و لعل بعض هذا العدد منقطع إلى آدم عليه السلام ، فينبغي الزجر عنه ، و تبيين ما جهله قائله منه و شدة الأدب فيه .
و لو علم أنه قصد سب من في آبائه من الأنبياء على علم لقتل .
و قد يقيض القول في نحو هذا لو قال لرجل هاشمي : لعن الله بني هاشم و قال : أردت الظالمين منهم ، أو قال لرجل من ذرية النبي صلى الله عليه و سلم قولاً قبيحاً في أبائه أو من نسله أو ولده على علم من ه أنه من ذرية النبي صلى الله عليه و سلم ، و لم تكن قرينة في المسألتين تقتضي تخصيص بعض أبائه ، و إخراج النبي صلى الله عليه و سلم ممن سبه منهم .
[ و قد رأيت لأبي موسى عيسى بن مناس في من قال لرجل : لعنك الله إلى آدم عليه السلام أنه إن ثبت عليه ذلك قتل ] .
و قد كان اختلف شيوخنا فيمن قال لشاهد شهد عليه بشيء ثم قال له : تتهمني ؟ قال له الآخر : الأنبياء يتهمون ، فكيف أنت ؟ فكان شيخنا أبو إسحاق بن جعفر يرى قتله ، لبشاعة ظاهر اللفظ .
و كان القاضي أبو محمد بن منصور يتوقف عن القتل لأحتمل اللفظ عنده أن يكون خبراً عمن أتهمهم من الكفار .
و أفتى فيها قاضي قرطبة أبو عبد الله ابن الحاج بنحو هذا .
و شدد القاضي أبو محمد تصفيده ، و أطال سجنه ، ثم استحلفه بعد على تكذيب ما شهد به عليه ، إذ دخل في شهادة بعض من شهد عليه وهن ، ثم أطلقه .

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة رد مع اقتباس

03-29-2010, 04:42 PM #33
عادل الناظورى
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
عضو نشط نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة تاريخ التسجيلSep 2009المشاركات407 معدل تقييم المستوى8

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة رد: كتاب الشفاء(كاملا للقراءة)

و شاهدت شيخنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى أيام قضائه أتى برجل هاتر رجلاً ، ثم قصد إلى كلب فضربه برجله و قال له : قم يا محمد ، فأنكر الرجل أن يكون قال ذلك ، و شهد عليه لفيف من الناس ، فأمر به إلى السجن ، و تقصى عن حاله ، و هل يصحب من يستر اب بدينه ؟ فلما لم يجد ما يقوي الريبة باعتقاده ضربه بالسوط و أطلقه .
فصل
الوجه الخامس ألا يقصد نقصاً . .
الوجه الخامس ألا يقصد نقصاً ، و لا يذكر عيباً و لا سباً ، لكنه ينزع بذكر بعض أوصافه ، أو يستشهد ببعض أحواله صلى الله عليه و سلم الجائزة عليه في الدنيا على طريق ضرب المثل ، و الحجة لنفسه أو لغيره ، أو على التشبه به ، أو عند هضمية نالته ، أو غضاضة لحقته ، ليس على طريق التأسي و طريق التحقيق ، بل على مقصد الترفيع لنفسه أو لغيره ، أو على سبيل التمثيل و عدم التوقير لنبيه صلى الله عليه و سلم ، أو على قصد الهزل و التندير بقوله ، كقول القائل : إن قيل في السوء فقد قيل في النبي ، و إن كذبت فقد كذب الأنبياء ، أو إن أذنبت فقد أذنبوا ، أو أنا أسلم من ألسنة الناس و لم يسلم منهم أنبياء الله و رسوله ، أو قد صبرت كما صبر أولوا العزم ، أو كصبر أيوب ، أو قد صبر نبي الله عن عداه ، وحلم على أكثر مما صبرت ، و كقول المتنبي :
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
و نحوه من أشعار المتعجرفين في القول ، المتساهلين في الكلام ، كقول المعري :
كنت موسى وافته بنت شعيب غير أن ليس فيكما من فقير
على أن آخر البيت شديد ، و داخل في باب الإزراء و الت حقير بالنبي [ 252 ] صلى الله عليه و سلم ، و تفضيل حال غيره عليه .
و كذلك قوله :
لولا انقطاع الوحي بعد محمد قلنا محمد من أبيه بديل
هو مثله في الفضل إلا أنه لم يأته برسالة جبريل
فصدر البيت الثاني من هذا الفصل شديد ، لتشبيهه غير النبي في فضله بالنبي ، و العجز محتمل لوجهين : أحدهما أن هذا الفضيلة نقصت الممدوح ، و الآخر استغناؤه عنها . و هذا أشد .
و نحو منه قول الآخر :
و إذا ما رفعت راياته صفقت بين جناحي جبرين
و قول الآخر من أهل العصر :
فر من الخلد و استجار بنا فصبر الله قلب رضوان
و كقول حسان المصيصي من شعراء الأندلس في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد و وزيره أبي بكر بن زيدون :
كأن أبا بكر أبو بكر الرضا و حسان حسان و أنت محمد
و إنما أكثرنا شاهدنا مع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها و لتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك ، و استخفافهم فادح هذا العبء و قلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر ، و كلامهم منه بما ليس لهم به علم ، و يحسبونه هيناً و هو عند الله عظيم ، لا سيما الشعراء . و أشدهم فيه تصريحاً ، و للسانه تسريحاً ، و ل لسانه تسريحاً ابن هانيءالأندلسي، و ابن سليمان المعري ، بل قد خرج كثير من كلامهما إلى حد الاستخفاف و النقص و صريح الكفر .
و قد أجبنا عنه ، و غرضنا الآن الكلام في الفصل الذي سقنا أمثلته ، فإن هذه كلها و إن لم تتضمن سباً ، و لا أضافت إلى الملائكة و الأنبياء نقصاً ، و لست أعني عجزى بيتي المعري ، و لا قصد قائلها إزراء و غضاً ، فما وقر النبوة ، و لا عظم الرسالة ، و لا عزز حرمة الاصطفاء ، و لا عزز حظوة الكرامة حتى شبه من شبه في كرامة نالها ، أو معرة قصد الانتقاء منها ، أو ضرب مثل لتطيب مجلسه ، أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره ، و شرف قدره ، و ألزم توقيره و بره ، و نهى عن جهر القول له ، و رفع الصوت عنده .
فحق هذا إن درئ عنه القتل الأدب و السجن و قوة تعزيزه بحسب شنعة مقاله ، و مقتضى قبح ما نطق به ، و مألوف عادته لمثله ، أو ندوره ، و قرينة كلامه ، أو ندمه على ما سبق منه ، و لم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء به ، و قد أنكر الرشيد على أبي نواس قوله :
فإن يك باقي سحر فرعون فيكم فإن عصا موسى بكف خصيب
و قال له : يا بن اللخناء ، أنت المستهزئ بعصا موسى ! و أمر بإخ راجه عن عسكره من ليلته .
و ذكر القتبي أن مما أخذ عليه أيضاً ، و كفر فيه ، أو قارب قوله في محمد الأمين و تشبيهه إياه بالنبي صلى الله عليه و سلم ، حيث قال :
تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها خلقاً و خلقاً كما قد الشرا كان
[ 253 ] و قد أنكروا عليه أيضاً قوله :
كيف لا يدنيك من أمل من رسول الله من نفره
لأن حق الرسول و موجب تعظيمه و إنافة منزلته أن يضاف إليه ، و لا يضاف .
فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه في طريق الفتيا على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس رحمه الله و أصحابه :
ففي النوادر من رواية ابن أبي مريم عنه في رجل عير رجلاً بالفقر ، فقال : تعيرني بالفقر و قد رعى النبي صلى الله عليه و سلم الغنم ؟ فقال مالك : قد عرض بذكر النبي صلى الله عليه و سلم في غير موضعه ، أرى أن يؤدب ، قال : و لا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا : قد أخطأت الأنبياء قبلنا .
و قال عمر بن عبد العزيز لرجل : انظر لنا كاتباً يكون أبوه عربياً . فقال كاتب له : قد كان أبو النبي كافراً ، فقال : جعلت هذا مثلاً ! فعزله ، و قال : لا تكتب لي أبداً .
و قد كره سحنون أن يصلى على النبي صلى الله عليه و سلم عند التعجب إلا على طريق الثواب و الاحتساب ، توقيراً له و تعظيماً ، كما أمرنا الله .
و سئل القابسي عن رجل قال لرجل قبيح كأنه وجه نكير ، و لرجل عبوس كأنه وجه مالك الغضبان ، فقال : أي شيء أراد بهذا ، و نكير أحد فتاني القبر ، و هما ملكان ، فما الذي أراد ! أروع دخل عليه حين رآه من وجهه ، أم عاف النظر إليه لدمامة خلقه ، فإن كان هذا فهو شديد ، لأنه جرى مجرى التحقير و التهوين ، فهو أشد عقوبة ، و ليس فيه تصريح بالسب للملك ، و إنما السب واقع على المخاطب . و في الأدب بالسوط و السجن نكال للسفهاء ، قال : و أما ذاكر مالك خازن النار فقد جفا الذي ذكره عندما أنكر حاله من عبوس الآخر إلا أن يكون المعبس له يد فيرهب بعبسته ، فيشبهه القائل على طريق الذم لهذا في فعله ، و لزومه في ظلمه صفة مالك الملك المطيع لربه في فعله ، فيقول كأنه لله يغضب غضب مالك ، فيكون أخف ، و ما كان ينبغي له التعرض لمثل هذا ، و لو كان أثنى على العبوس يعبسته ، و احتج بصفة مالك كان أشد ، و يعاقب المعاقبة الشديدة ، و ليس في هذا ذم للملك ، و لو قصد ذمه لقتل .
و قال أبو الحسن أيضاً في شاب معروف ب الخير قال لرجل شيئاً ، فقال الرجل :
اسكت ، فإنك أمي . فقال الشاب : أليس كان النبي صلى الله عليه و سلم أمياً ! فشنع عليه مقاله ، و كفره الناس ، و أشفق الشاب مما قال ، و أظهر الندم عليه ، فقال أبو الحسن : أما إطلاق الكفر عليه فخطأ في استشهاده بصفة النبي صلى الله عليه و سلم ، و كون النبي أمياً له ، و كون هذا أمياً نقيصة فيه و جهالة .
و من جهالته احتجاجه بصفة النبي صلى الله عليه و سلم ، لكنه إذا استغفر و تاب ، و اعترف و لجأ إلى الله فيترك ، لأن قوله لا ينتهي إلى حد القتل ، و ما طريقه الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه .
و نزلت أيضاً مسألة استفتى فيها بعض قضاة الأندلس شيخا القاضي أبا محمد ابن منصور رحمه الله في رجل تنقصه . [ 256 ] آخر بشيء ، فقال له : إنما تريد نقصي بقولك ، و أنا بشر ، و جميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي صلى الله عليه و سلم ، فأفتاه بإطالة سجنه ، و إيجاع أدبه ، إذ لم يقصد السب ، و كان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله .
فصل
الوجه السادس أن يقول ذلك حاكياً عن غيره
الوجه السادس أن يقول القائل ذلك حاكياً عن غيره ، و آثراً له عن سواه ، فهذا ينظر في صورة حكايته و قرينة مقالته ، و يختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه : الوجوب ، و الندب ، و الكراهة ، التحريم ، فإن كان أخبر به على وجه الشهادة و التعريف بقائله ، و الإنكار و الإعلام بقوله ، و التنفير منه ، و التجريح له فهذا مما ينبغي امتثاله ، و يحمد فاعله ، و كذلك إن حكاه في كتاب أو في مجلس على طريق الرد له و النقض على قائله ، و للفتيا بما يلزمه .
و هذا منه ما يجب ، و منه ما يستحب بحسب حالات الحاكي لذلك و المحكي عنه ، فإن كان القائل لذلك ممن تصدى لأن يؤخذ عنه العلم أو رواية الحديث ، أو يقطع بحكمه أو شهادته ، أو فتياه في الحقوق وجب على سامعه الإشادة بما سمع منه و التنفير للناس عنه ، و الشهادة عليه بما قاله ، و وجب على من بلغه ذلك من أئمة المسلمين إنكاره ، و بيان كفره ، و فساد قوله ، لقطع ضرره عن المسلمين ، و قياماً بحق سيد المرسلين ، و كذلك إن كان ممن يعظ العامة ، أو يؤدب الصبيان فإن من هذه سريرته لا يؤمن على إلقاء ذلك في قلوبهم ، فيتأكد في هؤلاء ا لإيجاب لحق النبي صلى الله عليه و سلم ، و لحق شريعته .
و إن لم يكن القائل بهذه السبيل فالقيام بحق النبي صلى الله عليه و سلم واجب ، و حماية عرضه متعين ، و نصرته عن الأذى حياً و ميتاً مستحق على كل مؤمن ، لكنه إذا قام بهذا من ظهر به الحق ، و فصلت به القضية ، و بان به الأمر سقط عن الباقي الفرض ، و بقي الاستحباب في تكثير الشهادة عليه ، و عضد التحذير منه .
و قد أجمع السلف على بيان حال المتهم في الحديث ، فكيف بمثل هذا ؟ .
و قد سئل أبو محمد بن أبي زيد عن الشاهد يسمع مثل هذا في حق الله تعالى : أيسعه ألا يؤدي شهادته ؟ قال : إن رجا نفاذ الحكم بشهادته فليشهد .
و كذلك إن علم أن الحاكم لا يرى القتل بما شهد به ، و يرى الاستتابة و الأدب فليشهد ، و يلزمه ذلك .
و أما الإباحة لحكاية قوله لغير هذين المقصدين ، فلا أرى لها مدخلاً في هذا الباب ، فليس التفكه بعرض رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و التمضمض بسوء ذكره لأحد ، لا ذاكراً و لا آثراً لغير غرض شرعي بمباح .
و أما للأغراض المتقدمة فمتردد بين الايجاب و الاستحباب .
و قد حكى الله تعالى مقالات المفترين عليه و على رسله في كتابه على وجه الإنكار لق ولهم ، و التحذير من كفرهم ، و الوعيد عليه ، و الرد عليهم بما تلاه الله علينا في محكم كتابه .
و كذلك وقع من أمثاله في أحاديث النبي الله صلى الله عليه و سلم الصحيحة على الوجوه المتقدمة ، و أجمع السلف و الخلف من أئمة الهدى على حكايات مقالات الكفرة و الملحدين في كتبهم مجالسهم ليبينوها للناس ، و ينقضوا شبهها عليهم [ 255 ] ، و إن كان ورد لأحمد بن حنبل إنكار لبعض هذا على الحارث ابن أسد ، فقد صنع أحمد مثله في رده على الجهمية و القائلين بالمخلوق .
هذه الوجوه السائغة الحكاية عنها ، فأما ذكرها على غير هذا من حكاية سبه و الإزراء بمنصبه على وجه الحكايات و الأسمار و الطرف و أحاديث الناس و مقالاتهم في الغث و السمين ، و مضاحك المجان ، و نوادر السخفاء ، و الخوض في قيل و قال ، و ما لا يعني فكل هذا ممنوع ، و بعضه أشد في المنع و العقوبة من بعض ، فما كان من قائله الحاكي له على غير قصد أو معرفة بمقدار ما حكاه ، أو لم تكن عادته ، أو لم يكن الكلام من البشاعة حيث هو ، و لم يظهر على حاكيه استحسانه و استصوابه زجر عن ذلك ، و نهي عن العودة إليه ، وإن قوم ببعض الأدب فهو مستوجب له ، و إ، كان لفظه من الب شاعة حيث هو كان الأدب أشد .
و قد حكي أن رجلاً سأل مالكاً عمن يقول : القرآن مخلوق . فقال مالك : كافر فاقتلوه . فقال : إنما حكيته عن غيري . فقال مالك : إنما سمعناه منك .
و هذا من مالك على طريق الزجر و التغليظ ، بدليل أنه لم ينفذ قتله .
و إن اتهم هذا الحاكي فيما حكاه أنه اختلقه ، و نسبه إلى غيره ، أو كانت تلك عادة له ، أو ظهر استحسانه لذلك ، أو كان مولعاً بمثله ، و الاستخفاف له ، أو التحفظ لمثله ، و طلبه ، و رواية أشعار هجوه صلى الله عليه و سلم و سبه ، فحكم هذا حكم الساب نفسه ، يؤاخذ بقوله ، و لا تنفعه نسبته إلى غيره ، فيبادر بقتله و يعجل إلى الهاوية أمه .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام فيمن حفظ شطر بيت مما هجي به النبي صلى الله عليه و سلم فهو كفر .
و قد ذكر بعض من ألف في الإجماع إجماع المسلمين على تحريم رواية ما هجي به النبي صلى الله عليه و سلم ، و كتابته و قراءته ، و تركه متى وجد دون محو و رحم الله أسلافنا المتقين المتحرزين لدينهم ، فقد أسقطوا من أحاديث المغازي و السير ما كان هذا سبيله ، و تركوا روايته إلا أشياء ذكروها يسيرة و غير مستبشعة ، على نحو الوجوه الأول ، ليروا نقمة الله من قائلها ، و أخذه المفتري عليه بذنبه .
و هذا أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله قد تحرى فيما اضطر إلى الاستشهاد به من أهاجي أشعار العرب في كتبه ، فكنى عن اسم المهجو بوزن اسمه ، استبراء لدينه ، و تحفظاً من المشاركة في ذم أحد أو نشره ، فكيف بما يتطرق إلى عرض سيد البشر صلى الله عليه و سلم .
فصل
الوجه السابع أن يذكر ما يجوز على النبي ، أو يختلف في جوازه
الوجه السابع أن يذكر ما يجوز على النبي صلى الله عليه و سلم ، أو يختلف في جوازه عليه ، و ما يطرأ من الأمور البشرية به ، و تمكن إضافتها إليه ، أو يذكر ما امتحن به ، و صبر في ذات الله على شدته من مقاساة أعدائه ، و أذاهم له ، و معرفة ، ابتداء حاله و سيرته ، و ما لقيه من بؤس زمنه ، و مر عليه من معاناة عيشه ، كل ذلك على طريق الرواية ، و مذاكرة العلم ، و معرفة ما صحت منه العصمة للأنبياء ، و ما يجوز عليهم فهذا فن خارج عن هذه الفنون الستة ، إذ ليس فيه غمص و لا نقص ، و لا إزراء و لا استخفاف ، لا في ظاهر اللفظ [ 256 ] و لا في مقصد اللافظ ، لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم و فهماء طلبة الدين ممن يفهم مقاصده . و يحققون فوائده ، و ينجب ذلك من عساه لا يفقه ، أو يخشى به فتنته ، فقدكره بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف ، لما انطوت عليه من تلك القصص لضعف معرفتهن ، و نقص عقولهن و إدراكهن ، فقد قال صلى الله عليه و سلم الله مخبراً عن نفسه باستيجار لرعاية الغنم في ابتداء حاله ، و قال : ما من نبي إلا و قد رعى الغنم .
و أخبرنا الل ه تعالى بذلك عن موسى عليه السلام ، و هذا لا غضاضة فيه جملة واحدة لمن ذكره على وجهه ، بخلاف من قصد به الغضاضة و التحقير ، بل كانت عادة جميع العرب .
نعم ، في ذلك للأنبياء حكمة بالغة ، و تدريج لله تعالى لهم إلى كرامته ، و تدريب برعايتها لسياسة أممهم من خليقته بما سبق لهم من الكرامة في الأزل ، و متقدم العلم .
و كذلك قد ذكر الله يتمه و عيلته على طريق المنة عليه ، و التعريف بكرامته له ، فذكر الذاكر لها على وجه تعريف حاله ، و الخبر عن مبتدئه ، و التعجب من منح الله قبله ، و عظيم منته عنده ليس فيه غضاضة ، بل فيه دلالة على نبوته و صحة دعوته ، إذ أظهره الله تعالى بعد هذا على صناديد العرب و من ناوأه من أشرافهم شيئاً فشيئاً ، و نمى أمره حتى قهرهم ، و تمكن من ملك مقاليدهم ، و استباحة ممالك كثير من الأمم غيرهم ، بإظهار الله تعالى له ، و تأييده بنصره و بالمؤمنين ، و ألف بين قلوبهم ، و إمداده بالملائكة المسومين ، و لو كان ابن ملك أو ذا أشيع متقدمين لحسب كثير من الجهال أن ذلك موجب ظهوره ، و مقتضى علوه ، و لهذا قال هرقل حين سأل أبا سفيان عنه : هل في آبائه من ملك ؟ فقال : لا . ثم قال : و لو كان في آبائه ملك لقلنا : رجل يطلب ملك أبيه ، و إذا اليتيم من صفته و إحدى علاماته في الكتب المتقدمة و أخبار الأمم السالفة .
و كذا و قع ذكره في كتاب أرميا ، و بهذا وصفه ابن ذي يزن لعبد المطلب ، و بحيرا لأبي طالب .
و كذلك إذا وصف بأنه أمي كما وصفه الله به فهي مدحه له و فضيلة ثابتة فيه ، و قاعدة معجزته ، إذ معجزته العظمى في القرآن العظيم إنما هي متعلقة بطريق المعارف و العلوم ، مع ما منح صلى الله عليه و سلم ، و فضل به من ذلك ، كما قدمناه في القسم الأول .
و وجود مثل ذلك من رجل لم يقرأ و لم يكتب و لم يدارس و لا لقن مقتضى العجب ، و منتهى العبر ، و معجزة البشر .
و ليس في ذلك نقيصة ، إذ المطلوب من الكتابة و القراءة المعرفة ، و إنما هي آلة لها ، و واسطة موصلة إليها غير مرادة في نفسها ، فإذا حصلت الثمرة و المطلوب استغني عن الواسطة و السبب .
و الأمية في غيره نقيصة ، لأنها سبب الجهالة ، و عنوان الغباوة ، فسبحان من باين أمره من أمر غيره ، و جعل شرفه فيما فيه محطة سواه ، و جعل حياته فيما فيه هلاك من عداه ، هذا شق قلبه ، و إخراج حشوته ، كان تمام حياته ، و غاية قوة نفسه ، و ثبات روعه ، و هو فيمن سواه منتهى هلاكه و حتم موته و فنائه ، و هلم جراً إلى سائر ما روي من أخباره و سيره ، و تقلله من الدنيا [ 257 ] و من الملبس و المطعم و المركب ، و تواضعه و مهنته نفسه في أموره ، و خدمة بيته زهداً و رغبة عن الدنيا ، و تسوية بين حقيرها و خطيرها ، لسرعة فناء أمورها ، و تقلب أحوالها ، كل هذا من فضائله و مآثره و شرفه كما ذكرناه ، فمن أورد سيئاً منها موردة و قصد بها مقصدة كان حسناً ، و من أورد ذلك على غير وجهه ، و علم منه بذلك سوء قصده لحق بالفصول التي قدمناها .
و كذلك ما ورد من أخباره و أخبار سائر الأنبياء عليهم السلام في الأحاديث مما في ظاهره إشكال يقتضي أموراً لا تليق بهم بحال ، و يحتاج إلى تأويل و تردد احتمال ، فلا
يجب أن يتحدث منها إلا بالصحيح ، و لا يروى منها إلا المعلوم الثابت .
و رحم الله مالكاً ، فلقد كره التحدث بمثل ذلك من الأحاديث الموهمة للتشبيه و المشكلة المعنى ، و قال : ما يدعو إلى التحدث بمثل هذا ؟ فقيل له : إن ابن عجلان يحدث بها ، فقال : لم يكن من الفقهاء ، و ليت الناس وافقوه على ترك الحديث بها ، و ساعدوه على طيها ، فأكثرها ليس تحته عمل .
و قد حكي عن جماعة من السلف ، بل عنهم على الجملة أنهم كانوا يكرهون الكلام فيما ليس تحته عمل ، و النبي صلى الله عليه و سلم أوردها على قوم عرب يفهمون كلام العرب على وجهه ، و تصرفاتهم في حقيقته و مجازه ، و استعارته ، و بليغه و إيجازه ، فلم تكن في حقهم مشكلةً ، ثم جاء من غلبت عليه العجمة ، داخلته الأمية ، فلا يكاد يفهم من مقاصد العرب إلا نصها و صريحها ، و لا يتحقق بإشاراتها إلى غرض الإيجاز ، و وحيها و تبليغها ، و تلويحها ، فتفرقوا من تأويلها [ و حملها على ظاهرها ] شذر مذر ، فمنهم من آمن به ، و منهم من كفر .
فأما ما لا يصح من هذه الأحاديث فواجب ألا يذكر منها شيء في حق الله و لا في حق أنبيائه ، و لا يتحدث بها ، و لا يتكلف الكلام على معانيها . و الصواب طرحها ، و ترك الشغل بها إلا أن تذكر على وجه التعريف بأنها ضعيفة المقاد واهية الإسناد .
و قد أنكر الأشياخ على أبي بكر بن فورك تكلفه في مشكلة الكلام على أحاديث ضعيفة موضوعة لا أصل لها ، أو منقولة عن أهل الكتاب الذين يلبسون الحق بالباطل كان يكفيه طرحها ، و يغنيه عن الكلام التنبيه على ضعفها ، إذ المقصود بالكلام على مشكل ما فيها إزالة اللبس ، و اجتثاثها من أصلها ، و طرحها أكشف للبس و أشفى للنفس .

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:08 AM   #49
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




فصل
الالتزام عند ذكر النبي بالواجب من توقيره و تعظيمه
و مما يجب على المتكلم فيما يجوز على النبي صلى الله عليه و سلم و ما لا يجوز ، و الذاكر من حالاته ما قدمناه في الفصل قبل هذا على طريق المذاكرة و التعليم أن يلتزم في كلامه عند ذكره صلى الله عليه و سلم ، و ذكر تلك الأحوال الواجب من توقيره و تعظيمه ، و يراقب حال لسانه ، و لا يهمله ، و تظهر عليه علامات الأدب عند ذكره ، فإذا ذكر ما قاساه من الشدائد ظهر عليه الإشفاق و الإرتماض ، و الغيط على عدوه ، و مودة الفداء للنبي صلى الله عليه و سلم لو قدر عليه ، و النصرة له لو أمكنته .
و إذا أخذ في أبواب العصمة ، و تكلم على مجاري أعماله و أقواله صلى الله عليه و سلم تحرى أحسن [ 258 ] اللفظ و أدب العبارة ما أمكنه ، و اجتنب بشيع ذلك ، و هجر من العبارة ما يقبح ، كلفظة الجهل و الكذب و المعصية ، فإذا تكلم في الأقوال قال : هل يجوز عليه الخلف في القول و الإخبار بخلاف ما وقع سهواً أو غلطاً ، و نحوه من العبارة ، و يتجنب لفظة الكذب جملةً واحدةً .
و إذا تكلم على العلم قال : هل يجوز ألا يعلم إلا ما علم ؟ و هل يمكن ألا يكون عنده علم من بعض الأشياء حتى يوح ى إليه ، و لا يقول يجهل ، لقبح اللفظ و بشاعته .
و إذا تكلم في الأفعال قال : هل يجوز منه المخالفة في بعض الأوامر و النواهي و مواقعة بعض الصغائر ؟ فهو أولى و آدب من قوله : هل يجوز أن يعصي أو يذنب أو يفعل كذا و كذا ، من أنواع المعاصي ؟ فهذا من حق توقيره صلى الله عليه و سلم ، و ما يجب له من تعزيز و إعظام .
و قد رأيت بعض العلماء لم يتحفظ من هذا ، فقبح منه ، و لم أستصوب عبارته فيه .
و وجدت بعض الجائرين قوله لأجل ترك تحفظه في العبارة ما لم يقله ، و شنع عليه بما يأباه ، و يكفر قائله .
و إذا كان مثل هذا بين الناس مستعملاً في آدابهم و حسن معاشرتهم و خطابهم ، فاستعماله في حقه صلى الله عليه و سلم أوجب ، و التزامه آكد .
فجودة العبارة تقبح الشيء أو تحسنه ، و تحريرها و تهذيبها تعظم الأمر أو تهونه ، و لهذا قال صلى الله عليه و سلم : إن من البيان لسحراً .
فأما ما أورده على جهة النفي عنه و التنزيه فلا حرج في تسريح العبارة و تصريحها فيه ، كقوله : لا يجوز عليه الكذب جملةً ، و لا إتيان الكبائر بوجه ، و لا الجور في الحكم على حال ، و لكن مع هذا يجب ظهور توقيره و تعظيمه عند ذكره مجرداً ، فكيف عند ذك ر مثل هذا .
و قد كان السلف تظهر عليهم حالات شديدة عند مجرد ذكره ، كما قدمناه في القسم الثاني .
و قد كان بعضهم يلتزم مثل ذلك عند تلاوة آي من القرآن ، حكى الله تعالى فيها مقال عداه ، و من كفر بآياته ، و افترى عليه الكذب ، فكان يخفض بها صوته إعظاماً لربه ، و إجلالاً له ، و إشفاقاً من التشبه بمن كفر به .






الباب الثاني
في حكم سابه و شاتمه و متنقصه و مؤذيه و عقوبته
قد قدمنا ما هو سب و أذى في حقه صلى الله عليه و سلم ، و ذكرنا إجماع العلماء على قتل فاعل ذلك و قائله ، أو تخيير الإمام في قتله أو صلبه على ما ذكرناه ، و قررنا الحجج عليه .
و بعد فاعلم أن مشهور مذهب مالك و أصحابه ، و قول السلف و جمهور العلماء قتله حداً لا كفراً إن أظهر التوبة منه ، و لهذا لا تقبل عندهم توبته ، و لا تنفعه استقالته و لا فيئته كما قدمناه قبل ، و حكمه حكم الزنديق ، و مسر الكفر في هذا القول ، و سواء كانت توبته على هذا بعد القدرة عليه والشهادة على قوله ، أو جاء تائباً من قبل نفسه ، لأنه حد لا تسقطه التوبة كسائر الحدود .
قال الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله : إذا أقر بالسب ، و تاب منه ، و أظهر التوبة قتل بالسب ، لأنه هو حده .
[ 259 ] و قال أبو محمد بن أبي زيد في مثله ، و أما ما بينه و بين الله فتوبته تنفعه .
و قال ابن سحنون : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من الموحدين ، ثم تاب عن ذلك لم تزل توبته عنه القتل .
و كذلك قد اختلف في الزنديق إذا جاء تائباً ، فحكى القاضي أبو الحسن بن القصار في ذ لك قولين :
قال : من شيوخنا من قال : أقتله بإقراره ، لأنه كان يقدر على ستر نفسه ، فلما اعترف خفنا أنه خشي الظهور عليه فبادر لذلك .
و منهم من قال : أقبل توبته ، لأني أستبدل على صحتها بمجيئه ، فكأننا وقفنا على باطنه ، بخلاف من أسرته البينة .
قال القاضي أبو الفضل : و هذا قول أصبغ ، و مسألة ساب النبي صلى الله عليه و سلم أقوى ، لا يتصور فيها الخلاف على الأصل المتقدم ، لأنه حق متعلق للنبي صلى الله عليه و سلم و لأمته بسبه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين .
و الزنديق إذا تاب بعد القدرة عليه فعند مالك ، و الليث ، و إسحاق ، و أحمد ، لا تقبل توبته .
و عند الشافعي تقبل .
و اختلف فيه أبي حنيفة و أبي يوسف .
و حكى ابن المنذر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : يستتاب .
قال محمد بن سحنون : و لم يزل القتل عن المسلم بالتوبة من سبه صلى الله عليه و سلم ، لأنه لم ينتقل من دين إلى غيره ، و إنما فعل شيئاً حده عندنا القتل لا عفو فيه لأحد ، كالزنديق ، لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر .
و قال القاضي أبو محمد بن نصر محتجاً لسقوط اعتبار توبته : و الفرق بينه و ب ين من سب الله تعالى على مشهور القول باستتابته أن النبي صلى الله عليه و سلم بشر ، و البشر جنس تلحقه المعرة إلا من أكرمه الله بنبوته ، و البارئ تعالى منزه عن جميع المعايب قطعاً ، و ليس من جنس تلحق المعرة بجنسه ، و ليس سبه صلى الله عليه و سلم كالارتداد المقبول فيه التوبة ، لأن الارتداد معنى ينفرد به المرتد ، لا حق فيه لغيره من الآدميين ، فقبلت توبته . و من سب النبي صلى الله عليه و سلم تعلق فيه حق لآدمي ، فكان كالمرتد يقتل حين ارتداده أو يقذف ، فإن توبته لا تسقط عند حد القتل و القذف .
و أيضاً فإن توبة المرتد إذا قبلت لا تسقط ذنوبه من زنا و سرقة و غيرها ، و لم يقتل ساب النبي صلى الله عليه و سلم لكفره ، لكن لمعنى يرجع إلى تعظيم حرمته و زوال المعرة به ، و ذلك لا تسقطه التوبة .
قال القاضي أبو الفضل : يريد و الله أعلم : لأن سبه لم يكن بكلمة تقتضي الكفر ، و لكن بمعنى الإزراء و الإستخفاف ، أو لأن بتوبته و إظهار إنابته ارتفع عنه اسم الكفر ظاهراً ، و الله أعلم بسريرته ، و بقي حكم السب عليه .
[ و قال أبو عمران القابسي : من سب النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم ارتد عن الإسلام قتل و ل م يستتب ، لأن السب من حقوق الآدميين التي لا تسقط عن المرتد ] . و كلام شيوخنا هؤلاء مبني على القول بقتله ، حداً لا كفراً ، و هو يحتاج إلى تفصيل .
و أما على رواية الوليد بن مسلم عن مالك وافقه على ذلك ممن ذكرناه و قال به من أهل العلم فقد صرحوا أنه ردة ، قالوا : و يستتاب منها ، فإن تاب نكل ، و إن أبى قتل ، فحكم له بحكم المرتد مطلقا في هذا الوجه .
و الوجه الأول أشهر و أظهر لما قدمناه ، و نحن نبسط الكلام فيه ، فنقول [ 260 ] :
من لم يره رده فهو يوجب القتل فيه حداً ، و إنما نقول ذلك مع فصلين : إما مع إنكاره ما شهد به عليه ، و إظهاره الإقلاع و التوبة عنه ، فنقتله حداً لثبات كلمة الكفر عليه في حق النبي صلى الله عليه و سلم ، و تحقيره ما عظم الله من حقه ، و أجرينا حكمه في ميرائه ، و غير ذلك حكم الزنديق إذا ظهر عليه و أنكر أو تاب .
فإن قيل : فكيف تثبتون عليه الكفر ، و يشهد عليه [ بكلمة الكفر ] و لا تحكمون عليه بحكمه من الاستتابة و توابعها !
قلنا : نحن و إن أثبتنا له حكم الكافر فلا نقطع عليه بذلك ، لإقراره بالتوحيد و النبوة ، و إنكاره ما شهد به عليه ، أو زعمه أن ذلك كان منه وهلاً و معص يةً ، و أنه مقلع عن ذلك نادم عليه ، و لا يمتنع إثبات بعض أحكام الكفر على بعض الأشخاص و إن لم تثبت له خصائصه ، كقتل الصلاة .
و أما من علم أنه سبه معتقداً استحلاله فلا شك في كفره بذلك .
و كذلك إن كان سبه في نفسه كفر ، كتكذيبه أو تكفيره و نحوه ، فهذا مما لا إشكال فيه ، و يقتل و إن تاب منه ، لأنا لا نقبل توبته ، و نقتله بعد التوبة حداً ، لقوله ، و متقدم كفره ، و أرمه بعد إلى الله المطلع على صحة إقلاعه ، العالم بسره .
و كذلك من لم يظهر التوبة ، و اعتراف بما شهد به عليه ، و صمم عليه فهذا كافر بقوله و باستحلاله . هتك حرمة الله و حرمة نبيه صلى الله عليه و سلم يقتل كافراً بلا خلاف .
فعلى هذه التفصيلات خذ كلام العلماء ، و نزل مختلف عباراتهم في الاحتجاج عليها ، و أجر اختلافهم في الموارثة و غيرها على ترتيبها تتضح لك مقاصدهم إن شاء الله تعالى .
فصل
استتابة الساب و الشاتم كالاستتابة للمرتد
إذا قلنا بالاستتابة حيث تصح فالاختلاف فيها على الاختلاف في توبة المرتد ، إذ لا فرق .
و قد اختلف السلف في وجوبها و صورتها و مدتها ، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن المرتد يستتاب .
و حكى ابن القصار أنه إجماع من الصحابة على تصويب قول عمر في الاستتابة ، و لم ينكره واحد منهم ، و هو قول عثمان ، و علي ، و ابن مسعود ، و به قال عطاء بن أبي رباح ، و النخعي ، و الثوري ، و مالك ، و أصحابه ، و الأوزاعي ، و الشافعي ، و أحمد ، و إسحاق ، و أصحاب الرأي .
و ذهب طاوس ، محمد بن الحسن ، و عبيد بن عمير ، و الحسن في إحدى الروايتين عنه أنه لا يستتاب ، و قاله عبد العزيز بن أبي سلمة ، و ذكره عن معاذ ، و أنكره سحنون عن معاذ ، و حكاه الطحاوي عن أبي يوسف ، و هو قول أهل الظاهر ، قالوا : و تنفعه توبته عند الله ، و لكن لا ندرأ القتل عنه ، لقوله صلى الله عليه و سلم ، من بدل دينه فاقتلوه .
و حكي أيضاً عن عطاء : إن كان ممن ولد في الإسلام لم يستتب ، و يستتاب الإسلامي .
و جمهور العلماء على أن المرتد و المر تدة في ذلك سواء .
و روي عن علي رضي الله عنه : لا تقل المرتدة ، و تسترق ، و قاله عطاء ، و قتادة .
و روي عن ابن عباس : لا تقتل النساء في الردة ، و به قال أبو حنيفة .
قال مالك : و الحر و العبد و الذكر و الأنثى في ذلك سواء .
و أما مدتها فمذهب الجمهور ، و روي عن عمر ، أنه يستتاب ثلاثة أيام يحبس فيها ، و قد [ 261 ] اختلف فيه عن عمر ، و هو أحد قولي الشافعي ، و قول أحمد ، و إسحاق ، و استحسنه مالك ، و قال : لا يأتي الاستظهار إلا بخير ، و ليس عليه جماعة الناس ..
قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد : يريد في الاستثناء ثلاثاً .
و قال مالك أيضاً : أخذ به في المرتد قول عمر : يحبس ثلاثة أيام ، و يعرض عليه كل يوم ، فإن تاب و إلا قتل .
و قال أبو الحسن بن القصار في تأخيره ثلاثاً روايتان عن مالك : هل ذلك واجب أو مستحب ؟ و استحسن الاستتابة و الاستيناء ثلاثاً أصحاب الرأي .
و روي عن أبي بكر الصديق أنه استتاب امرأة فلم تتب فقتلها ، و قاله الشافعي مرة ، فقال : إن لم يتب قتل مكانه . و استحسنه المزني .
و قال الزهري : يدعى إلى الإسلام ثلاث مر ات ، فإن أبى قتل .
و روي عن علي رضي الله عنه : يستتاب شهرين . و قال النخعي : يستتاب أبداً ، و به أخذ الثوري ما رجيت توبته . و حكى ابن القصار عن أبي حنيفة أنه يستتاب ثلاث مرات في ثلاثة أيام أو ثلاث جمع كل يوم أو جمعة مرة .
و في كتاب محمد ، عن القاسم : يدعى المرتد إلى الإسلام ثلاث مرات ، فإن أبى ضربت عنقه .
و اختلف على هذا هل يهدد أو يشدد عليه أيام الاستتابة ليتوب أم لا ؟ فقال مالك : ما علمت في الاستتابة تجويعاً و لا تعطشاً ، و يؤتى من الطعام بما لا يضره .
و قال أصبغ : يخوف أيام الاستتابة بالقتل ، و يعرض عليه الإسلام .
و في كتاب أبي الحسن الطابثي : يوعظ في تلك الأيام ، و يذكر بالجنة ، و يخوف بالنار .
قال أصبغ : و أي المواضع حبس فيها من السجون مع الناس أو وحده إذا استوثق منه سواء ، و يوقف ماله إذا خيف أن يتلفه على المسلمين ، و يطعم منه ، و يسقى .
و كذلك يستتاب كلما رجع و ارتد أبداً ، و قد استتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم نبهان الذي ارتد أربع مرات أو خمساً .
و قال ابن وهب ، عن مالك : يستتاب أبداً كلما رجع ، و هو قول الشافعي ، و أحمد ، و قاله ابن القاسم .
و قال إسحاق : يقتل في الرابعة .
و قال أصحاب الرأي : إن لم يتب في الرابعة قتل دون استتابة ، و إن تاب ضرب ضرباً وجيعاً ، و لم يخرج من السجن حتى يظهر عليه خشوع التوبة .
قال ابن المنذر : و لا نعلم أحداً أوجب على المرتد في المرة الأولى أدباً إذا رجع . و هو على مذهب مالك و الشافعي و الكوفي .
فصل
في حكم من لم تتم الشهادة عليه ..
هذا حكم من ثبت عليه ذلك بما يجب ثبوته من إقرار أو عدول لم يدفع فيهم ، فأما من لم تتم الشهادة عليه بما شهد عليه الواحد أو اللفيف من الناس ، أو ثبت قوله لكن احتمل و لم يكن صريحاً .
و كذلك إن تاب على القول بقبول توبته فهذا يدرأ عنه القتل ، و يتسلط عليه اجتهاد الإمام بقدر شهرة حاله ، و قوة الشهادة عليه ، و ضعفها ، و كثرة السماع عنه ، و صورة حاله من التهمة في الدين و النبر بالسفه و المجون ، فمن قوي أمره أذاقه من شديد النكال من التضيق في السجن ، و الشد في القيود إلى الغاية التي [ 262 ] هي منتهى طاقته لما لا يمنعه القيام لضرورته ، و لا يقعده عن صلاته ، و هو حكم كل من وجب عليه القتل ، لكن وقف عن قتله لمعنى أوجبه ، و تربص به لإشكال و عائق اقتضاه أمره ، و حالات الشدة في نكاله تختلف بحسب اختلاف حاله .
و قد روى الوليد عن مالك و الأوزاعي أنها ردة ، فإذا تاب نكل .
و لمالك في العتبية و كتاب محمد ، من رواية أشهب : إذا تاب المرتد فلا عقوبة عليه و قاله سحنون .
و أفتى أبو عبد الله بن عتاب فيمن سب النبي صلى الله عليه و سلم ، فشهد عليه شاهدان ع دل أحدهما بالأدب الموجع و التنكيل و السجن الطويل حتى تظهر توبته .
و قال القابسي في مثل هذا : و من كان أقصى أمره القتل فعاق عائق أشكل في القتل لم ينبع أن يطلق من السجن ، و يستطال سجنه ، و لو كان فيه من المدة ما عسى أن يقيم ، و يحمل عليه من القيد ما يطيق .
و قال في مثله ممن أشكل أمره : يشد في القيود شداً ، ، و يضيق عليه في السجن حتى ينظر فيما يجب عليه .
و قال في مسألة أخرى مثلها : و لا تهراق الدماء إلا بالأمر الواضح ، و في الأدب بالسوط و السجن نكال للسفهاء ، و يعاقب عقوبة شديدة ، فأما إن لم يشهد عليه سوى شاهدين ، و أثبت من عداوتهما أو جرحتهما ما أسقطهما عنه ، و لم يسمع ذلك من غيرها فأمره أخف لسقوط الحكم عنه ، و كأنه لم يشهد عليه ، إلا أن يكون مما لا يليق به ذلك ، و يكون الشاهدان من أهل التبريز فأسقطهما بعداوة ، فهو و إن لم ينفذ الحكم عليه بشهادتهما فلا يدفع الظن صدقهما ، و للحاكم هنا في تنكيله موضع اجتهاد .
و الله ولي الإرشاد .
فصل
حكم الذمي إذا صرح بسبه ، أو عرض ..
هذا حكم المسلم ، فأما الذمي إذا صرح بسبه أو عرض ، أو استخف بقدره ،
أو وصفه بغير الوجه الذي ، كفر به فلا خلاف عندنا في قتله إن لم يسلم ، لأنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا ، و هو قول عامة الفقهاء ، إلا أبا حنيفة و الثوري و أتباعهما من أهل الكوفة ، فإنهم قالوا : لا يقتل ، ما هو عليه من الشرك أعظم ، و لكن يؤدب و يعزز .
و استدل بعض شيوخنا على قتله بقوله تعالى : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون [ سورة التوبة /9 ، الآية : 12] .
و يستدل عليه أيضاً بقتل النبي صلى الله عليه و سلم لا بن الأشرف و أشباهه ، و لأنا لم نعاهدهم ، و لم نعطهم الذمة على هذا ، و لا يجوز لنا أن نفعل ذلك معهم ، فإذا أتوا ما لم يعطوا عليه العهد و لا الذمة فقد نقضوا ذمتهم ، و صاروا كفاراً يقتلون لكفرهم .
و أيضاً فإن ذمتهم لا تسقط حدود الإسلام عنهم ، من القطع في سرقة أموالهم ، و القتل لمن قتلوه منهم ، و إن كان ذلك حلالاً عندهم فكذلك سبهم النبي صلى الله عليه و سلم يقتلون به .
و وردت لأصحابنا ظ واهر تقتضي الخلاف إذا ذكره الذمي بالوجه الذي كفر به ، ستقف عليها من كلام ابن القاسم و ابن سحنون بعد .
[ 263 ] و حكى أبو المعصب الخلاف فيها عن أصحابه المدنيين . و اختلفوا إذا سبه ثم أسلم ، فقيل : يسقط إسلامه قتله ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب ، لأن نعلم باطنه الكافر في بغضه له ، و تنقصه بقلبه ، لكنا منعناه من إظهاره ، فلم يزدنا ما أظهره إلا مخالفة للأمر ، و نقض للعهد ، فإذا رجع عن دينه الأول إلى الإسلام سقط ما قبله ، قال الله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ سورة الأنفال /8 ، الآية : 38 ] .
و المسلم بخلافه ، إذا كان ظننا يباطنه حكم ظاهره ، و خلاف ما بدا منه الأن ، فلم نقبل بعد رجوعه ، و لا استنمنا إلى باطنه ، إذ قد بدت سرائره ، و ما ثبت عليه من الأحكام باقية عليه لا يسقطها شيء .
و قيل : لا يسقط إسلام الذمي الساب قتله ، لأنه حق النبي صلى الله عليه و سلم وجب عليه ، لانتهاكه حرمته ، و قصده إلحاق النقيصة و المعرة به ، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه ، كما وجب عليه من حقوق المسلمين من قبل إسلامه منقتل و قذف ، و إذا كنا لا نقبل توبة المسلم فإنا لا نقبل توبة الكافر أولى .
و قال مالك في كتاب ابن حبيب و المبسوط ، و ابن القاسم ، و ابن الماجشون ، و ابن عبد الحكم ، و أصبغ فيمن شتم نبيناً من أهل الذمة أو أحداً من الأنبياء عليهم السلام قتل إلا أن يسلم ، و قاله ابن القاسم في العتبية ، و عند محمد ، و ابن سحنون .
و قال سحنون و أصبغ : لا يقال له أسلم ، و لا لا تسلم ، و لكن إن أسلم فذلك له توبة .
و في كتاب محمد : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : منسب رسول الله صلى الله عليه و سلم أو غيره من الأنبياء من مسلم أو كافر قتل و لم يستتب .
و روي لنا عن مالك : إلا أن يسلم الكافر .
و قد روى ابن وهب ، عن ابن عمر أن راهباً تناول النبي صلى الله عليه و سلم ! فقال ابن عمر : فهلاً قتلتموه ! .
و روى عيسى عن ابن القاسم في ذمي قال : إن محمداً لم يرسل إلينا ، إنما أرسل إليكم ، و إنما نبينا موسى أو عيسى ، و نحو هذا : لا شيء عليهم ، لأن الله تعالى أقرهم على مثله .
و أما إن سبه فقال : ليس بنبي ، أو لم يرسل ، أو لم ينزل عليه القرآن ، و إنما شيء تقوله أو نحو هذا فيق تل .
و قال ابن القاسم : و إذا قال النصراني : ديننا خير من دينكم ، و إنما دينكم دين الحمير ، و نحو هذا من القبيح أو سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله ،
فقال : كذلك يعطيكم الله ، ففي هذا الأدب الموجع و السجن الطويل .
قال : و أما إن شتم النبي صلى الله عليه و سلم وسلم شتماً يعرف فإنه يقتل إلا أن يسلم ، قاله مالك غير مرة ، و لم يقل يستتاب .
قال ابن القاسم : و محمل قوله عندي إن أسلم طائعاً .
و قال ابن سحنون في سؤالات سليمان بن سالم في اليهودي يقول للمؤذن ، إذا تشهد : كذبت يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل .
و في النوادر من رواية سحنون عنه : من شتم الأنبياء من اليهود و النصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه إلا أن يسلم .
قال محمد بن سحنون : فإن قيل : لم قتلته في سب النبي صلى الله عليه و سلم و من دينه سبه و تكذيبه ؟ قيل : لأنا لم نعطهم [264 ] العهد على ذلك ، و لا على قتلنا ، و أخذ أموالنا ، فإذا قتل واحد منا قتلناه ، و إن كان من دينه استحلاله ، فكذلك إظهاره لسب نبينا صلى الله عليه و سلم .
قال سحنون : كما لو بذل لنا أهل الحرب الجزية ع لى اقرارهم على سبه لم يجز لنا ذلك في قول قائل .
و كذلك ينتقص عهد من سب منهم ، و يحل لنا دمه فكما لم يحصن الإسلام من سبه من القتل كذلك لا تحصنه الذمة .
قال القاضي أبو الفضل : ما ذكره ابن سحنون عن نفسه و عن أبيه مخالف لقول ابن القاسم فيما خفف عقوبتهم فيه مما به كفروا ، فتأمله .
و يدل على أنه خلاف ما روي عن المدنيين في ذلك ، فحكى أبو المصعب الزهري ، قال : أتيت بنصراني قال : و الذي اصطفى عيسى على محمد ، فاختلف على فيه ، فضربته حتى قتلته ، أو عاش يوماً و ليلة ، و أمرت من جر برجله ، و طرح على مزبلة ، فأكلته الكلاب .
و سئل أبو المصعب عن نصراني قال : عيسى خلق محمداً . فقال : يقتل .
و قال ابن القاسم : سألنا مالكاً عن نصراني بمصر شهد عليه أنه قال : مسكين محمد ، يخبرك أنه في الجنة ، ماله لم ينفع نفسه ! إذ كانت الكلاب تأكل ساقيه ، لو قتلوه استراح منه الناس .
قال مالك : أرى أن تضرب عنقه .
قال و لقد كدت ألا أتكلم فيها بشيء ، ثم رأيت أنه لا يسعني الصمت .
قال ابن كنانة في المبسوطة : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من اليهود و النصارى فأرى للإمام أ ن يحرقه بالنار ، و إن شاء قتله ثم حرق جثته ، و إن شاء أحرقه بالنار حياً إذا تهافتوا في سبه .
و قد كتب إلى مالك من مصر مسألة ابن قاسم المتقدمة ، قال : فأمرني مالك ، فكتبت بأن يقتل ، و أن يضرب عنقه ، فكتبت ،ثم قلت : يا أبا عبد الله ، و أكتب : ثم يحرق بالنار ؟ فقال كان إنه لحقيق بذلك ، و ما أولاه به .
فكتبته بيدي بين يديه ، فما أنكره و لا عابه ، و نفذت الصحيفة بذلك فقتل و حرق .
و أفتى عبيد الله ابن يحيى و ابن لبابة في جماعة سلف أصحابنا الأندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفي الربوبية و بنوة عيسى الله ، و بتكذيب محمد في النبوة ، و بقبول إسلامها و درأ القتل عنها به .
و به قال غير واحد من المتأخرين منهم القابسي ، و ابن الكتاب .
و قال أبو القاسم بن الجلاب في كتابه : من سب الله ورسوله من مسلم أو كافر قتل و لا يستتاب .
و حكى القاضي أبو محمد في الذمي يسب روايتين في درء القتل عنه بإسلامه .
و قال ابن سحنون : و حد القذف و شبهه من حقوق العباد لا يسقطه عن الذمي إسلامه ، و إنما يسقط عنه بإسلامه حدود الله .
فأما حد القذف فحق للعباد ، كان ذلك لنبي أو غيره ، فأوجب على الذمي إذا قذف النبي صلى الله عليه و سلم ثم أسلم حد القذف .
و لكن انظر ماذا يجب عليه ؟ هل حد القذف في حق النبي صلى الله عليه و سلم ، و هو القتل لزيادة حرمة النبي صلى الله عليه و سلم على غيره ، أم هل يسقط القتل بإسلامه ، و يحد ثمانين ؟ فتأمله .
فصل
من ميراث من قتل بسبب النبي ، و غسله ، و الصلاة عليه
اختلف العلماء في ميراث من قتل بسبب النبي صلى الله عليه و سلم ، فذهب سحنون إلى أنه لجماعة المسلمين من قبل أن شتم النبي صلى الله عليه و سلم كفر يشبه كفر الزندقة .
و قال أصبغ : ميراثه لورثته من المسلمين إن كان مستسراً بذلك ، و إن كان مظهراً له مستهلاً به فميراثه للمسلمين ، و يقتل على كل حال و لا يستتاب .
و قال أبو الحسن القابسي : إن قتل و هو منكر للشهادة عليه فالحكم في ميراثه على ما أظهره من إقراره يعني لورثته ، و القتل حد ثبت عليه ليس من الميراث في شيء .
و كذلك لو أقر بالسب و أظهر التوبة لقتل ، إذ هو حده . و حكمه في ميراثه ، و سائر أحكامه حكم الإسلام .
و لو أقر بالسب ، و تمادى عليه ، و أبى التوبة منه ، فقتل على ذلك كان كافراً ، و ميراثه للمسلمين ، و لا يغتسل و لا يصلى عليه ، و لا يكفن و تستر عورته ، و يوارى كما يفعل بالكفار .
و قول الشيخ أبي الحسن في المجاهرالمتمادي بين لا يمكن الخلاف فيه ، لأنه كافر مرتد غير تائب مقلع .
و هو مثل قول أصبغ ، و كذلك في كتاب ابن سحنون في الزنديق يتمادى على قوله .
و مثله لابن القاسم في العتبية و لجماعة من أصحاب مالك في كتاب ابن حبيب فيمن أعلن كفره مثله .
قال ابن القاسم : و حكمه حكم المرتد لا يرثه ورثته من المسلمين ، و لا من أهل الدين الذي ارتد إليه ، و لا تجوز وصاياه و لا عتقه ، و قاله أصبغ ، قتل على ذلك أو مات عليه .
و قال أبو محمد بن أبي زيد : و إنما يختلف في ميراث الزنديق الذي يستهل بالتوبة ، فلا تقبل منه ، فأما المتمادي فلا خلاف أنه لا يورث .
و قال أبو محمد فيمن سب الله تعالى ثم مات و لم تعدل عليه بينة ، أو لم تقبل : إنه يصلى عليه .
و روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب ابن حبيب فيمن كذب برسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أعلن ديناً مما يفارق به الإسلام أن ميراثه للمسلمين .
و قال بقول مالك : إن ميراث المرتد للمسلمين ، و لا ترثه ورثته ربيعة ، و الشافعي ، و أبو ثور ، و ابن أبي ليلى ، و اختلف فيه عن أحمد .
و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، و ابن مسعود ، و ابن المسيب ، و الحسن ، و الشعبي ، و عمر بن عبد العزيز ، و الحكم ، و الأوزاعي ، و الليث ، و إسحاق ، و أبو حنيفة ترثه ورثته من المسلمين .
و قيل ذلك فيما كسبه قبل ارتداده ، و ما يكسبه في الإرتداد فللمسلمين .

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:09 AM   #50
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




قال القاضي أبو الفضل : و تفصيل أبي الحسن في باقي جوابه حسن بين ، و هو على رأي أصبغ ، و خلاف قول سحنون ، و اختلافهما على قولي مالك في ميراث الزنديق ، فمرة ورثه ورثته من المسلمين قامت بذلك بينة فأنكرها ، أو اعترف بذلك و أظهر التوبة .
و قاله أصبغ ، و محمد بن مسلمة ، و غير واحد من أصحابه ، لأنه مظهر للإسلام بإنكاره أو توبته ، و حكمه حكم المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و روى ابن نافع عنه في العتبية ، و كتاب محمد أن ميراثه لجماعة المسلمين ، لأن ماله تبع لدمه .
و قال به أيضاً جماعة من أصحابه ، و قاله أشهب ، و المغيرة ، و عبد الملك ، و محمد ، و سحنون .
و ذهب [ 266 ] ابن القاسم في العتبية إلى أنه إن اعترف بما شهد عليه به و تاب فقتل فلا يورث . و إن لم يقر حتى قتل أو مات ورث .
قال : و كذلك كل من أسر كفراً فإنهم يتوارثون بوراثة الإسلام .
و سئل أبو القاسم ابن الكا تب عن النصراني يسب النبي صلى الله عليه و سلم فيقتل ، هل يرثه أهل دينه أم المسلمون ؟
فأجاب بأنه للمسلمين ليس على جهة الميراث ، لأنه لا توارث بين أهل ملتين ، و لكن لأنه من فيئهم ، لنقضه العهد ، و هذا معنى قوله و اختصاره .





الباب الثالث
في حكم من سب الله تعالى و ملائكته و كتبه ، و أنبياءه ، و آل النبي و أزواجه وصحبه
لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم . و اختلف في استتابته ، فقال ابن القاسم في المبسوط ، و في كتاب ابن سحنون ، و محمد ، و رواه ابن القاسم عن مالك في كتاب إسحاق بن يحيى : من سب الله تعالى من المسلمين قتل و لم يستتب إلا أن يكون افتراء على الله بارتداده إلى دين دان به و أظهره فيستتاب ، و إن لم يظهره لم يستتب .
و قال في المبسوطة مطرف و عبد الملك مثله .
و قال المخزومي ، و محمد بن سلمة ، و ابن أبي حازم : لا يقتل المسلم بالسب حتى يستتاب .
و كذلك اليهودي و النصراني ، فإن تابوا قبل منهم ، و إن لم يتوبوا قتلوا و لا بد من الاستتابة ، و ذلك كله كالردة ، و هو الذي حكاه القاضي بن نصر عن المذهب .
و أفتى أبو محمد بن أبي زيد فيما حكي عنه في رجل لعن رجلاً و لعن الله ، فقال : إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني ، فقال : يقتل بظاهر كفره ، و لا يقبل عذره .
و أما فيما بينه و بين الله تعالى فمعذور .
و اختلف فقهاء قرطبة في مسألة هارون بن حبيب أخي عبد الملك الفقيه ، و كان ضيق الصدر ، كثير التبرم ، و كان قد شهد عليه بشهادات ، منها أنه قال عند استقلاله من مرض : لقيت في مرضى هذا ما لو قتلت أبا بكر و عمر لم أستوجب هذا كله .
فأفتى إبراهيم بن حسين بن خالد بقتله ، و أن مضمن قوله تجوير لله تعالى و تظلم منه ، و التعريض فيه كالتصريح .
و أفتى أخوه عبد الملك بن حبيب ، و إبراهيم بن حسين بن عاصم ، و سعيد بن سليمان القاضي بطرح القتل عنه ، إلا أن القاضي رأى عليه التثقيل في الحبس ، و الشدة في الأدب ، لاحتمال كلامه ، و صرفه إلى التشكي ، فوجه من قال في ساب الله بالاستتابة إنه كفر و ردة محضة لم يتعلق بها حق لغير الله ، فأشبه قصد الكفر بغير سب الله ، و إظهار الانتقال إلى دين آخر من الأديان المخالفة للإسلام .
و وجه ترك استتابته أنه لما ظهر منه ذلك بعد إظهار الإسلام قبل اتهمناه و ظننا أن لسانه لم ينطق به إلا و هو معتقد له ، إذ لا يتساهل في هذا أحد ، فحكم له بحكم الزنديق ، و لم تقبل توبته ، و إذا انتقل من دين إلى آخر ، و أظهر السب بمعنى الارتداد فهذا قد أعلم أنه خلع ربقة الإسلام من عنقه ، بخلاف الأول [ 267 ] المتمسك به ، و حكم هذا حكم ا لمرتد : يستتاب على مشهور مذاهب أكثر أهل العلم ، و هو مذهب مالك و أصحابه على ما بيناه قبل ، و ذكرنا الخلاف في فصوله .
فصل
حكم من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به
و أما من أضاف إلى الله تعالى ما لا يليق به ليس على طريق السب و لا الردة و قصد الكفر ، و لكن على طريق التأويل و الاجتهاد و الخطأ المفضي إلى الهوى و البدعة ، من تشبيه أو نعت بجارحة أو نفي صفة كمال ، فهذا مما اختلف السلف ، و الخلف في تكفير قائله و معتقده .
و اختلف قول مالك و أصحابه في ذلك ، و لم يختلفوا في قتالهم إذا تحيزوا فئةً ، و أنهم يستتابون ، فإن تابوا و إلا قتلوا و إنما اختلفوا في المنفرد منهم ، و أكثر قول مالك و أصحابه ترك القول بتكفيرهم ، و ترك قتلهم ، و المبالغة في عقوبتهم ، و إطالة سجنهم ، حتى يظهر إقلاعهم ، و تستبين توبتهم ، كما فعل عمر رضي الله عنه بصبيغ .
و هذا قول محمد بن المواز في الخوارج و عبد الملك بن الماجشون ، و قول سحنون في جميع أهل الأهواء ، و به فسر قول مالك في الموطأ ، و ما رواه عن عمر بن عبد العزيز و جده و عمه ، من قولهم في القدرية يستتابون ، فإن تابوا و إلا قتلوا .
و قال عيسى عن ابن القاسم في أهل الهواء من الإباضية و القدرية و شبههم ممن خالف الجماعة من أهل البدع و التحريف ، لتأويل كتاب الله : يستتابون أظهروا ذلك أو أسروه . فإن تابوا إلا قتلوا ، و ميراثهم لورثتهم .
و قال مثله أيضاً ابن القاسم في كتاب محمد في أهل القدر و غيرهم ، قال : و استتابتهم أن يقال لهم : اتركوا ما أنتم عليه .
و مثله له في المبسوط في الإباضية و القدرية و سائر أهل البدع ، قال : و هم مسلمون ، و إنما قتلوا لرأيهم السوء ، و بهذا عمل عمر بن عبد العزيز .
قال ابن القاسم : من قال : إن الله لم يكلم موس تكليماً استتيب ، فإن تاب و إلا قتل .
و ابن حبيب و غيره من أصحابنا يرى تكفيرهم و تكفير أمثالهم من الخوارج و القدرية و المرجئة .
و قد روي أيضاً عن سحنون مثله فيمن قال : ليس لله كلام ، إنه كافر .
و اختلفت الروايات عن مالك ، فاطلق في رواية الشاميين : أبي مسهر ، و مروان ابن محمد الطاطري الكفر عليهم ، و قد شوور في زواج القدري ، فقال : لا تزوجه ، قال الله تعالى : ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 221 ] .
و قال : من وصف شيئاً من ذات الله تعالى ، و أشار إلى شيء من جسده : يد ، أو سمع ، أو بصر ، قطع ذلك منه ، لأنه شبه الله بنفسه .
و قال فيمن قال : ا لقرآن مخلوق كافر فاقتلوه .
و قال أيضاً في رواية ابن نافع يجلد ، و يوجع ، ضرباً ، و يحبس حتى يتوب .
و في رواية بشر بن بكر التنيسي عنه : يقتل و لا تقبل توبته .
قال القاضي أبو عبد الله البرنكاني ، و القاضي أبو عبد الله التستري من أئمة العراقيين : جوابه مختلف ، يقتل المستبصر الداعية .
و على هذا الخلاف اختلف قوله في إعادة الصلاة خلفهم .
و حكى ابن المنذر ، عن الشافعي : لا [ 268 ] يستتاب القدري .
و أكثر أقوال السلف تكفيرهم ، و ممن قال به الليث ، و ابن عيينة و ابن لهيعة ، و روي عنهم ذلك فيمن قال بخلق القرآن ، و قاله ابن المبارك ، و الأودي ، و وكيع ، و حفص بن غياث ، و أبو إسحاق الفزاري ، و هشيم ، و علي بن عاصم في آخرين ، و هو من قول أكثر المحدثين و الفقهاء و المتكلمين فيهم و في الخوارج و القدرية و أهل الأهواء المضلة و أصحاب البدع المتأولين ، و هو قول أحمد بن حنبل ، و كذلك قالوا في الواقفة و الشاكة في هذه الأصول .
و ممن روي عن معنى القول الآخر بترك تكفيرهم علي بن أبي طالب ، و ابن عمر ، و الحسن البصري ، و هو رأي جماعة من الفقهاء و النظار و المتكلمين ، و احتجوا بتو ريث الصحابة و التابعين ورثة أهل حروراء ، و من عرف بالقدر ممن مات منهم ، و دفنهم في مقابر المسلمين ، و جري أحكام الإسلام عليهم .
قال إسماعيل القاضي : و إنما قال مالك في القدرية و سائر أهل البدع : يستتابون ، فإن تابوا و إلا قتلوا ، لأنه من الفساد في الأرض ، كما قال في المحارب : إن رأى الإمام قتله ، و إن لم يقتل ، قتله ، و فساد المحارب إنما هو في الأموال و مصالح الدنيا ، و إن كان قد يدخل أيضاً في أمر الدين من سبيل الحج و الجهاد ، و فساد أهل البدع معظمه على الدين ، و قد يدخل في أمر الدنيا بما يلقون بين المسلمين من العداوة .



فصل
في تحقيق القول في إكفار المتأولين
قد ذكرنا مذاهب السلف في إكفار أهل البدع و الأهواء المتأولين ممن قال قولاً يؤديه مساقه إلى كفر ، و هو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله إليه .
و على اختلافهم اختلف الفقهاء و المتكلمون في ذلك ، فمنهم من صوب التكفير الذي قال به الجمهور من السلف ، و منهم من أباه و لم ير إخراجهم من سواد المؤمنين ، و هو قول أكثر الفقهاء و المتكلمين ، و قالوا : هم فساق عصاة ضلال ، و نوارثهم من المسلمين ، و نحكم لهم بأحكامهم ، و لهذا قال سحنون : لا إعادة على من صلى خلفهم ، قال : و هو قول جميع أصحاب مالك [ كلهم ] : المغيرة ، و ابن كنانة ، و أشهب ، قال : لأنه مسلم ، و ذنبه لم يخرجه من الإسلام .
و اضطرب آخرون في ذلك ، و وقفوا على القول بالتكفير وضده . و اختلاف قولي مالك في ذلك ، و توقفه عن إعادة الصلاة خلفهم منه و إلى نحو من هذا ذهب القاضي أبو بكر إمام أهل التحقيق و الحق ، و قال : إنها من المعوصات ، إذا القوم لم يصرحوا بالكفر ، و إنما قالوا قولاً يؤدي إليه .
و اضطرب قوله في المسألة على نحو اضطراب قول إمامه مالك بن أنس حتى قال في بعض كلامه : إن هم على رأي من كفرهم بالتأويل لا تحل مناكحتهم ، و لا أكل ذبائحهم ، و لا الصلاة على ميتهم .
و يختلف في موارثتهم على الخلاف في ميراث المرتد .
و قال أيضاً : نورث ميتهم ورثتهم من المسلمين ، و لا نورثهم هم من المسلمين ، و أكثر ميله إلى تركه التكفير بالمآل ، و كذلك اضطراب فيه قول شيخه أبي الحسن الأشعري ، و أكثر قوله ترك التكفير ، و أن الكفر خصلة واحدة ، و هو الجهل [ 269 ] بوجود الباري تعالى .
و قال مرةً : من اعتقد أن الله جسم ، أو المسيح ، أو بعض من يلقاه في الطرق ، فليس بعارف به و هو كافر .
و لمثل هذا ذهب أبو المعالي رحمه الله في أجوبته لأبي محمد عبد الحق ، و كان سأله عن المسالة ، و اعتذر له بأن الغلط فيها يصعب ، لأن إدخال كافر في الملة ، أو إخراج مسلم عنها عظيم في الدين .
و قال غيرهما من المحققين : الذي يجب الاحتراز من التكفير في أهل التأويل ، فإن استبحاة الموحدين خطأ ، و الخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد .
و قد قال صلى الله عليه و سلم : فإذا قالوها يعني الشهادة عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها ، و حسابهم على الله .
فالعصمة مقطوع بها من الش هادة ، و لا ترتفع و يستباح خلافها إلا بقاطع ، و لا قاطع من شرع و لا قياس عليه .
و ألفاظ الأحاديث الواردة في الباب معرضة للتأويل ، فما جاء منها في التصريح بكفر القدرية ، و قوله : لا سهم لهم في الإسلام ، و تسميته الرافضة بالشرك ، و إطلاق اللعنة عليهم ، و كذلك في الخوارج و غيرهم من أهل الأهواء ، فقد يحتج بها من يقول بالتفكير ، و قد يجيب الآخر عنها بأنه قد ورد في الحديث مثل هذه الألفاظ في غير الكفرة على طريق التغليط ، و كفر دون كفر ، و إشراك دون إشراك .
و قد ورد مثله في الرياء و عقوق الوالدين ، و الزوج ، و الزور ، و غير معصية .
و إذا كان محتملاً للأمرين فلا يقطع على أحدهما إلا بدليل قاطع .
و قوله في الخوارج : هم من شر البرية ، و هذه صفة الكفار .
و قال : شر قبيل تحت أديم السماء ، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه .
و قال : فإذا وجدتموهم فاقتلوهم قتل عاد .
فظاهر هذا الكفر لا سيما مع تشبيههم بعاد ، فيحتج به من يرى تكفيرهم ، فيقول له الآخر : إنما ذلك من قتلهم لخروجهم على المسلمين و بغيهم عليهم ، بدليل من الحديث نفسه : يقتلون أهل الإسلام ، فقتلهم ها هنا حد لا كفر .
و ذكر عاد تشبيه للقتل و حله لا للمقتول ، و ليس كل من حكم بقتله يحكم بكفره . و يعارضه بقول خالد في الحديث : دعني أضرب عنقه يا رسول الله . فقال : لعله يصلي .
فإن احتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم : يقروؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم فأخبر أن الإيمان لم يدخل قلوبهم .
و كذلك قوله : يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، ثم لا يعودون إليه حق يعود السهم على فوقه .
و بقوله : سبق الفرث و الدم يدل على أنه لم يتعلق من الإسلام بشيء .
أجابه الآخرون : إن معنى لا يجاوز حناجرهم : لا بفهمون معانيه بقلوبهم ، و لا تنشرح له صدورهم ، و لا تعمل به جوارحهم ، و عارضوهم بقوله ، و يتمارى في الفوق .
و هذا يقتضي التشكك في حاله .
و احتجوا بقول أبي سعيد الخدري في هذا الحديث : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يخرج في هذه الأمة و لم يقل : من هذه [ 270 ] ، و تحرير أبي سعيد الرواية ، و إتقانه اللفظ .
أجابهم الآخرون بأن العبارة : في لا تقتضي تصريحاً بكونهم من غير الأمة ، بخلاف لفظة من التي هي للتبعيض . و كونهم من الأمة مع أنه قد روي عن أبي ذر ، و علي ، و أبي أمامة و غيرهم في هذا الحديث : يخرج من أمتي و سيكون من أمتي ، و حروف المعاني مشتركة ، فلا تعويل على إخراجهم من الأمة ب [ في ] ، و لا على إدخالهم فيها ب [ من ] ، لكن أبا سعيد رضي الله عنه أجاد ما شاء في التنبيه الذي نبه عليه . و هذا مما يدل على سعة فقه الصحابة و تحقيقهم للمعاني و استنباطها من الألفاظ ، و تحريرهم لها ، و توقيهم في الرواية هذه المذاهب المعروفة لأهل السنة .
و لغيرهم من الفرق فيها مقالات كثيرة مضطربة سخيفة ، أقر بها قول جهم و محمد بن شبيب : إن الكفر بالله الجهل به ، لا يكفر أحد بغير ذلك .
و قال أبو الهذيل : إن كل متأول كان تأويله تشبيهاً لله بخلقه ، و تجويراً له في فعله ، و تكذيباً لخبره فهو كافر .
و كل من أثبت شيئاً قديماً لا يقال له الله فهو كافر .
و قال بعض المتكلمين : إن كان ممن عرف الأصل و بنى عليه ، و كان فيما هو من أوصاف الله فهو كافر ، و إن لم يكن من هذا الباب ففاسق ، إلا أن يكون ممن لم يعرف الأصل فهو مخطئ غير كافر .
و ذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان عرضه للتأويل ، و فارق في ذلك فرق الأمة ، إذ أجمعوا سواه على أن الحق في أصول الدين في واحد ، و المخطئ فيه آثم عاص فاسق . و إنما الخلاف في تكفيره .
و قد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني مثل قول عبيد الله عن داود الأصبهاني ،
قال : و حكى قوم عنهما أنهما قالا ذلك في كل من علم الله سبحانه من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا أو من غيرهم .
و قال نحو هذا القول الجاحظ ، و ثمامة ، في أن كثيراً من العامة و النساء و البله و مقلدة النصارى و اليهود و غيرهم لا حجة لله عليهم ، إذ لم تكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال .
و قد نحا الغزالي من هذا المنحى في كتاب التفرقة .
و قائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى و اليهود و كل من فارق دين المسلمين ، أو وقف في تكفيرهم ، أو شك .
قال القاضي أبو بكر : لأن التوقيف و الإجماع على كفرهم ، فمن وقف في ذلك فقد كذب النص ، و التوقيف ، أو شك فيه . و التكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر .



فصل
في بيان ما هو من المقالات كفر ، و ما يتوقف أو يختلف فيه ، و ما ليس بكفر
اعلم أن تحقيق هذا الفصل و كشف اللبس فيه مورده الشرع ، و لا مجال للعقل فيه ، و الفصل البين في هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية أو عبادة أحد غير الله ، أو مع الله فهو كفر ، كمقالة الدهرية ، و سائر فرق أصحاب الاثنين من الديصانية أو المانوية و أشباههم من الصائبين و النصارى و المجوس [ 271 ] ، و الذين أشركوا بعبادة الأوثان أو الملائكة ، أو الشياطين ، أو الشمس ، أو النجوم أو النار أو أحد غير الله من مشركي العرب ، و أهل الهند و الصين و السودان و غيرهم ممن لا يرجع إلى كتاب .
و كذلك القرامطة و أصحاب الحلول و التناسخ من الباطنية و الطيارة من الرافضة و الجناحية و البيانية و الغرابية .
و كذلك من اعترف بإلالهية الله و وحدانيته ، و لكنه اعتقد أنه غير حي أو غير قديم ، و أنه محدث أو مصور ، أو ادعى له ولداً أو صاحبة أو والداً ، أو أنه متولد من شيء أو كائن عنه ، أو أن معه في الأزل شيئاً قديماً غيره ، أو أن ثم صانعاً للعالم سواه ، أو مدبراً غيره ، فذلك كله كفر بإجماع المسلمين ، كقول الإلهيين من الفلاسفة و ا لمنجمين و الطبائعيين . و كذلك من ادعى مجالسة الله ، و العروج إليه ، و مكالمته ، أو حلوله في أحد الأشخاص ، كقول بعض المتصوفة و الباطنية ، و النصارى ، و القرام


حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:10 AM   #51
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




و كذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم ، أو بقائه ، أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة و الدهرية ، أو قال بتناسخ الأرواح و انتقالها أبد الآباد في الأشخاص ، و تعذيبها أو تنعيمها فيها بحسب زكائها و خبثها . و كذلك من اعترف بالإلهية و الوحدانية ، و لكنه جحد النبوة من أصلها عموماً ، أو نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم خصوصاً ، أو أحد من الأنبياء الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك ، فهو كافر بلا ريب ، كالبراهمة ، و معظم اليهود و الأروسية من النصارى ، و الغرابية من الروافض الزاعمين أن علياً كان المبعوث إليه جبريل ، و كالمعطلة و القرامطة و الإسماعيلية و العنبرية من الرافضة ، و إن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم .
و كذلك من دان بالوحدانية و صحة النبوة ، و نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به ، ادعى في ذلك المصلحة بزعمه أو لم يدعها فهو كافر بإجماع ، كالمتفلسفين ، و بعض الباطنية ، و ا لروافض ، و غلاة المتصوفة ، و أصحاب الإباحة ، فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع ، و أكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان و يكون من أمور الآخرة و الحشر و القيامة ، و الجنة و النار ، ليس منها شيء على مقتضى لفظها و مفهوم خطابها ، و إنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة لهم ، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم ، فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع ، و تعطيل الأوامر و النواهي ، و تكذيب الرسل ، و الإرتياب فيما أتوا به .
و كذلك من أضاف إلى نبينا صلى الله عليه و سلم تعمد الكذب فيما بلغه و أخبر به ، أو شك في صدقه ، أو سبه ، أو قال : إنه لم يبلغ ، أواستخف به ، أو بأحد من الأنبياء ، أو أزرى عليهم ، أو آذاهم ، أو قتل نبياً ، أو حاربه ، فهو كافر بإجماع .
و كذلك نكفر من ذهب مذهب القدماء في أن في كل جنس من الحيوان نذيراً أو نبياً من القردة و الخنازير و الدواب و الدود . و يحتج بقوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . إذ ذلك يؤدي إلى أن يوصف أنبياء هذه الأجناس بصفاتهم المذمومة . و فيه من الإزراء على هذا المنصب [ 272 ] المنيف ما فيه ، مع إجماع المسلمين على خلافه ، وتكذيب قائله .
وكذلك نكفر من ا عترف من الأصول الصحيحة بما تقدم ، و بنبوة نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لكن قال : كان أسود ، أو مات قبل أن يلتحي ، و ليس الذي كان بمكة و الحجاز ، أو ليس بقرشي ، لأن وصفه بغير صفاته المعلومة نفي له و تكذيب به .
وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه و سلم أو بعده ، كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب ، و كالخرمية القائلين بتواتر الرسل ، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلى الله عليه و سلم و بعده ، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة و الحجة ، و كالبزيعية و البيانية منهم القائلين بنيوة بزيع و بيان و أشباه هؤلاء . أو من ادعى النبوة لنفسه ، أو جوز اكتسابها و البلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها ، كالفلاسفة و غلاة المتصوفة .
و كذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه و إن لم يدع النبوة ، أو أنه يصعد إلى السماء و يدخل إلى الجنة ، و يأكل من ثمارها ، و يعانق الحور العين ، فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي صلى الله عليه و سلم ، لأنه أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه خاتم النبيين ، لا نبي بعده . و أخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين ، و أنه أرسل كافة للناس .
و أجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره ، و أن مفهومه المراد منه دون تأويل و لا تخصيص ، فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعاً إجماعاً و سمعاً .
و كذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب ، أو خص حديثاً مجمعاً على نقله مقطوعاً به ، مجمعاً على حمله على ظاهره ، كتكفير الخوارج بإبطال الرجم ، و لهذا نكفر من دان بغيرملة المسلمين من الملل ، أو وقف فيهم ، أو شك ، أو صحح مذهبهم ، و إن أظهر مع ذلك الإسلام ، و اعتقده ، و اعتقد إبطال كل مذهب سواه ، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك .
و كذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة و تكفير جميع الصحابة ، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم ، إذ لم تقدم علياً . و كفرت علياً ، إذ لم يتقدم و يطلب حقه في التقديم ، فهؤلاء قد كفروا من وجوه ، لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها ، إذ قد انقطع نقلها و نقل القرآن ، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم ، و إلى هذا و الله أعلم أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة .
ثم كفروامن وجه آخر بسبهم النبي صلى الله عليه و سلم على مقتضى قولهم و زعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه و هو يعلم انه يكفر بعده على قولهم ، لعنة الله عليهم ، و صلى الله على رسوله و آله .
و كذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر من كافر و إن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك الفعل ، كالسجود للصنم ، و للشمس و القمر ، و الصليب و النار ، و السعي إلى الكنائس و البيع مع أهلها بزيهم : من شد الزنانير ، و فحص الرؤوس ، فقد أجمع المسلمون أن هذا [ الفعل ] لا يوجد [ 273 ] إلا من كافر ، و أن هذه الأفعال علامة على الكفر و إن صرح فاعلها بالإسلام .
و كذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه ، كأصحاب الإباحة من القرامطة و بعض غلاة المتصوفة .
و كذلك نقطع بتكفير كل من كذب و أنكر قاعدة من قواعد الشرع ، و ما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول ، و وقع الإجماع المتصل عليه ، كمن أنكر وجوب الخمس الصلوات أو عدد ركعاتها و سجداتها ، و يقول : إنما أوجب الله علينا في كتابه الصلاة على الجملة ، و كونها خمساً ، و على هذه الصفات و الشروط لا أعلمه ، إذ لم يرد فيه في القرآن نص جلي ، و الخبر به عن الرسول صلى الله عليه و سلم خبر و احد .
و كذلك أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج : إن الصلاة طرفي النهار ، و على تكفير الباطنية في قولهم : إن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم ، و الخبائث و المحارم أسماء رجال أمروا بالبراء منهم .
و قول بعض المتصوفة : إن العبادة و طول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها و إباحة كل شيء لهم ، و رفع عهد الشرائع عنهم .
و كذلك إن أنكر منكر مكة ، أو البيت ، أو المسجد الحرام ، أو صفة الحج ، أو قال : الحج واجب في القرآن ، و استقبال القبلة كذلك ، و لكن كونه على هذه الهيئة المتعارفة ، أن تلك البقعة هي مكة و البيت و المسجد الحرام ، لا أدري هي تلك أو غيرها ، و لعل الناقلين أن النبي صلى الله عليه و سلم فسرها بهذه التفاسير غلطوا و وهموا ، فهذا و مثله لا مرية في تكفيره إن كان ممن يظن به علم ذلك ، و ممن يخالط المسلمين ، [ و امتدت صحبته لهم، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام ، فيقال له : سبيلك أن تسأل عن هذا الذي لم تعلمه بعد كافة المسلمين ] ، فلا تجد بينهم خلافاً ، كافة ًعن كافة ، إلى معاصري الرسول صلى الله عليه و سلم أن هذه الأمور كما قيل لك ، و أن تلك البقعة هي مكة و البيت الذي فيها هو الكعبة ، و القبلة التي صلى لها الرسول صلى الله عليه و سلم و المسلمون ، و حجوا إليها ، و طافوا بها ، و ان تلك الأفعال هي صفة عبادة الحج ، و المراد به ، و هي التي فعلها النبي صلى الله عليه و سلم و المسلمون ، و أن صفات الصلاةالمذكورة هي التي فعل النبي صلى الله عليه و سلم ، و شرح مراد الله بذلك ، و أبان حدودها ، فيقع لك العلم كما وقع لهم ، و لا ترتاب بذلك بعد ، و المرتاب في ذلك ، أو المنكر بعد البحث و صحبة المسلمين كافر باتفاق ، لا يعذر بقوله : لا أدري ، و لا يصدق فيه ، بل ظاهره التستر عن التكذيب ، إذ لا يمكن أنه لا يدري .
و أيضاً فإنه إذا جوز على جميع الأمة الوهم و الغلط فيما نقلوه من ذلك ، و أجمعوا أنه قول الرسول و فعله و تفسير مراد الله به أدخل الاسترابة في جميع الشريعة ، إذ هم الناقلون لها و للقرآن ، و انحلت عرا الدين كرةً ، و من قال هذا كافر .
و كذلك من أنكرالقرآن ، أو حرفاً منه ، او غيره شيئاً منه ، أو زاد فيه ، كفعل الباطنية و الإسماعيلي ، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي صلى الله عليه و سلم [ 274 ] ، أو ليس فيه حجة و لا معجزة ، كقول هشام الفوطي ، و معمر الضمري : إنه لا يدل على الله ، و لا حجة فيه لرسوله ، و لا يدل على ثواب و لا عقاب ، و لا حكم ، و لا محالة في كفرهما بذلك القول .
و كذلك تكفيرهما بإنكارهما أن يكون في سائر معجزات النبي صلى الله عليه و سلم حجة له ، أو في خلق السموات و الأرض دليل على الله ، لمخالفتهم الإجماع و النقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم باحتجاجه بهذا كله و تصريح القرآن به .
و كذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن بعد علمه أنه من القرآن الذي في أيدي الناس و مصاحف المسلمين ، و لم يكن جاهلاً به ، و لا قريب عهد بالإسلام ، و احتج لإنكاره إما بأنه لم يصح النقل عنده ، و لا بلغه العلم به ، أو لتجويزه الوهم على ناقليه ، فنكفره بالطريقين المتقدمين ، لأنه مكذب [ للقرآن ، مكذب ] للنبي صلى الله عليه و سلم ، لكنه تستر بدعواه .
و كذلك من أنكر الجنة أو النار ، أو البعث أو الحساب أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه ، و إجماع الأمة على صحة نقله متواتراً ، و كذلك من اعتراف بذلك ، و لكنه قال : إن المراد بالجنة و النار ، و الحشر و النشر ، و الثواب و العقاب معنى غير ظاهره ، و إنها لذات روحانية، و معان باطنة ، كقول النصارى و الفلاسفة و الباطنية و بعض المتصوفة ، و زعمهم أن معنى القيامة الموت أو فناء محض ، و انتقاض هيئة الأفلاك ، و تحليل العالم ، كقول بعض الفلاسفة .
و كذلك نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم : إن الأئمة أفضل من الأنبياء .
فأما من أنكر ما عرف بالتواتر من الأخبار و السير و البلاد التي لا ترجع إلى إبطال شريعة ، و لا تفضي إلى إنكار قاعدة من الدين ، كإنكار غزوة تبوك أو مؤتة ، أو وجود أبي بكر و عمر ، أو قتل عثمان ، و خلافة علي ، مما علم بالنقل ضرورة ، و ليس في إنكاره جحد شريعة ، فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك ، و إنكاره وقوع العلم له ، إذ ليس في ذلك أكثر من المباهتة ، كإنكار هشام و عباد وقعة الجمل ، و محاربة علي من خالفه .
فأما إن ضعف ذلك من أجل تهمة الناقلين ، و وهم المسلمين أجمع ، فنكفره بذلك لسريانه إلى إبطال الشريعة .
فأما من أنكر الإجماع المجرد الذي ليس طريقه النقل المتواتر عن الشارع فأكثر المتكلمين من الفقهاء و النظار في هذا الباب قالوا بتكفيركل من خالف الإجماع الصحيح الجامع لشروط الإجماع المتفق عليه عموماً .
و حجتهم قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونص له جهنم وساءت مصيرا [ سورة النساء / 4 ، الآية : 115 ] .
و قوله صلى الله عليه و سلم : من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه . و حكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع .
و ذهب آخرون إلى الوقوف عن القطع بتكفير من خالف الإجماع [ الذي يختص بنقله العلماء .
و ذهب آخرون إلى التوقف في تكفير من خالف الإجماع ] الكائن عن نظر ، كتكفير النظام بإنكاره الإجماع ، لأنه بقوله هذا مخالف إجماع السلف على احتجاجهم به ، خارق للإجماع .
قال القاضي أبو بكر : القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده ، و الإيمان بالله [ 275 ] هو العلم بوجوده ، و أنه لا يكفر أحد بقول و لا رأي إلا أن يكون هو الجهل بالله ، فإن عص بقول أو فعل نص الله و رسوله ، أو أجمع المسلمون ، أنه لا يوجد إلا من كافر ، أو يقوم دليل على ذلك ، فقد كفر ، ليس لأجل قوله أو فعله ، لكن لما يقارنه من الكفر ، فالكفر بالله لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور : أحدها الجهل بالله تعالى . و الثاني أن يأتي فعلاً أو يقول قولاً يخبر الله و رسوله ، أو يجمع المسلمون ، أن ذلك لا يكون إلا من كافر ، كالسجود للصنم ، و المشي إلى الكنائس بالتزام الزنار مع أصحابها في أعيادهم ، أو أن يكون ذلك القول أو الفعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى .
قال : فهذان الضربان ، وإن لم يكونا جهلاً بالله فهما علم أن فاعلهما كافر منسلخ من الإيمان ، فأما من نفى صفة من صفات الله تعالى الذاتية ، أو جحدها مستبصراً في ذلك ، كقوله : ليس بعالم ولا قادر ولا مريد ولا متكلم ، وشبه ذلط من صفات الكمال الواجبة له تعالى ، فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها ، وأعراه عنها .
وعلى هذا حمل قول سحنون : من قال : ليس لله كلام ، فهو كافر ، و هو لا يكفر المتأولين كما قدمناه .
فأما من جهل صفة من هذه الصفات فاختلف العلماء ها هنا ، فكفره بعضهم ، وحكي ذلك عن أبي جعفر الطبري و غيره ، و قال به أبو الحسن الأشعري مرة .
و ذهبت طائفة إلى أن هذا لا يخرجه عن اسم الإيمان ، و إليه رجع الأشعري ، قال : لأنه لم يعتقد ذلك اعتقاداً يقطع بصوابه ، ويراه ديناً وشرعاً وإنما نكفر من اعتقد أن مقاله حق .
واحتج هؤلاء بحديث السوداء ، وأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما طلب منها التوحيد لا غير ، وبحديث القائل : لئن قدر الله علي وفي رواية فيه : لعلي أضل الله
. ثم قال : فغفر الله له .
قالوا : ولو بوحث أكثر الناس عن الصفات وكوشفوا عنها لما وجد من يعلمها إلا الأقل .
وقد أجاب الآخر عن هذا الحديث بوجوه ، منها أن قدر بمعنى قدر ، ولا يكون شكه في القدرة على إحيائه ، بل في نفس البعث الذي لا يعلم إلا بشرع ، و لعله ورد عندهم به شرع يقطع عليه ، فيكون الشك به حينئذ فيه كفراً .
فأما ما لم يرد شرع فهو من مجوزات العقول ، أو يكون قدر بمعنى ضيق ، و يكون ما فعله إزراء عليها و غضباً لعصيانها .
و قيل : قال ما قاله و هو غير عاقل لكلامه و لا ضابط للفظه مما استولى عليه من الجزع والخشية التي أذهبت لبه ، فلم يؤاخذ به .
[ و قيل : كان هذا في زمن الفترة ، و حيث ينفع مجرد التوحيد ] .
و قيل : بل هذا من مجاز كلام العرب الذي صورته الشك ، و معناه التحقيق ، و هو يسمى تجاهل العارف ، و له أمثلة في كلامهم ، كقوله تعالى : لعله يتذكر أو يخشى . و قوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سورة سبأ / 34 ، الآية : 24 ] .
فأما من أثبت الوصف و نفى الصفة فقال : أقول عالم و لكن لا علم له ، و متكلم و لكن لا كلام له . و هكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزل ة [ 276 ] : فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قوله ، و يسوقه إليه مذهبه كفره ، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم ، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم فكأنهم صرحوا عنده بما أدى إليه قوله لهم . و هكذا عند هذا سائر فرق أهل التأويل من المشبهة و القدرية و غيرهم .
و من لم ير أخذهم بمآل قولهم ، و لا ألزمهم موجب مذهبهم ، لم ير إكفارهم ، قال : لأنهم إذا وقفوا على هذا قالوا : لا نقول ليس بعالم ، و نحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتوه لنا ، و نعتقد نحن و أنتم أنه كفر ، بل نقول : إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه .
فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل ، و إذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك .
و الصواب ترك إكفارهم و الإعراض عن الحتم عليهم بالخسران و إجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم و وراثاتهم ، و مناكحاتهم ، و دياتهم ، و الصلاة عليهم ، و دفنهم في مقابر المسلمين ، و سائر معاملاتهم ، لكنهم يغلط عليهم بوجيع الأدب ، و شديد الزجر و الهجر ، حتى يرجعوا عن بدعتهم .
و هذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم ، فقد كان نشأ على زمان الصحابة و بعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال من القد ر و رأى الخوارج و الاعتزال ، فما أزاحو لهم قبراً ، و لا قطعوا لأحد منهم ميراثاً ، لكنهم هجروهم و أدبوهم بالضرب و النفي و القتل على قدر أحوالهم ، لأنه فساق ضلال عصاة أصحاب كبائر عند المحققين و أهل السنة ممن لم يقل بكفرهم منهم خلافاً لمن رأى غير ذلك . و الله الموفق للصواب . قال القاضي أبو بكر و أما مسائل الوعد و الوعيد ، و الرؤية و المخلوق ، و خلق الأفعال ، و بقاء الأعراض ، و التولد و شبهها من الدقائق فالمنع في إكفار المتأولين فيها أوضح ، إذ ليس في الجهل بشيء منها جهل بالله تعالى ، و لا أجمع المسلمون على إكفار من جهل شيئاً منها .
و قد قدمنا في الفصل قبله من الكلام و صورة الخلاف في هذا ما أغنى عن إعادته بحول الله تعالى .


حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-18-2012, 11:12 AM   #52
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




فصل
في حكم الساب إذا كان ذميا
هذا حكم المسلم الساب لله تعالى . و أما الذمي فروي عن عبد الله بن عمر في ذمي تناول من حرمه الله تعالى غير ما هو عليه من دينه ، و حاج فيه ، فخرج ابن عمر عليه بالسيف فطلبه فهرب .
و قال مالك في كتاب ابن حبيب و المبسوطة و ابن القاسم في المبسوط ، و كتاب محمد و ابن سحنون : من شتم الله من اليهود و النصارى بغير الوجه الذي به كفروا قتل و لم يستتب .
قال ابن القاسم : إلا أن يسلم . قال في المبسوطة : طوعاً .
قال أصبغ : لأن الوجه الذي به كفروا هو دينهم ، و عليه عوهدوا من دعوى الصاحبة و الشريك و الولد .
و أما غير هذا من الفرية و الشتم فلم يعاهدوا عليه ، فهو نقض للعهد .
قال ابن القاسم في كتاب محمد : و من شتم من غير أهل الأديان الله تعالى بغير الوجه الذي ذكر في كتابه قتل إلا أن يسلم .
و قال المخزومي في المبسوطة ، و محمد بن سلمة ، و ابن أبي حازم : لا يقتل حتى يستتاب مسلماً كان أو كافراً ، فإن تاب و إلا قتل [ 277 ] .
و قال مطرف و عبد الملك مثل قول مالك .
و قال أبو محمد بن أبي زي د : من سب الله تعالى بغير الوجه الذي به كفر قتل إلا أن يسلم .
و قد ذكرنا قول ابن الجلاب قبل ، و ذكرنا قول عبيد الله ، و ابن لبابة ، و شيوخ الأندلسيين في النصرانية و فتياهم بقتلها لسبها ، بالوجه الذي كفرت به ، لله و للنبي ، و إجماعهم على ذلك ، و هو نحو القول الآخر فيمن سب النبي صلى الله عليه و سلم منهم بالوجه الذي كفر به ، و لا فرق في ذلك بين سب الله و سب نبيه ، لأنا عاهدناهم على ألا يظهروا لنا شيئاً من كفرهم ، و ألا يسمعونا شيئاً من ذلك ، فمتى فعلوا شيئاً منه فهو نقض لعهدهم .
و اختلف العلماء في الذمي إذا تزندق ، فقال مالك ، و مطرف ، وابن عبد الحكم ، و أصيغ : لا يقتل ، لأنه خرج من كفر إلى كفر .
و قال عبد الملأ بن الماجشون : يقتل لأنه دين لا يقر عليه أحد ، و لا تؤخذ عليه جزية .
فصل
في مفترى الكذب على الله تبارك و تعالى بادعاء الإلهية
هذا حكم من صرح بسبه و إضافة ما لا يليق بجلاله و إلاهيته ، فأما مفتري الكذب عليه تبارك و تعالى بادعاء الإلاهية أو الرسالة أو النافي أن يكون الله خالقه أو ربه ، أو قال : ليس رب ، أو المتكلم بما لا يعقل من ذلك في سكره أو غمرة جنونه فلا خلاف في كفر قائل ذلك و مدعيه مع سلامة عقله كما قدمنا ، لكنه تقبل توبته على المشهور ، و تنفعه إنابته ، و تنجيه من القتل فيئته ، لكنه لا يسلم من عظيم النكال ، و لا يرفه عن شديد العقاب ، ليكون ذلك زجراً لمثله عن قوله ، و له عن العودة لكفره أو جهله ، إلا من تكرر منه ذلك ، و عرف استهانته بما أتى به ، فهو دليل على سوء طويته ، و كذب توبته ، و صار كالزنديق الذي لا نأمن باطنه ، و لا نقبل رجوعه . و حكم السكران في ذلك حكم الصاحي .
و أما المجنون و المعتوه فما علم أنه قاله من ذلك في حال غمرته و ذهاب ميزه بالكلية فلا نظر فيه ، و ما فعله من ذلك في حال ميزه و إن لم يكن معه عقله و سقط تكليفه أدب على ذلك لينزجر عنه ، كما يؤدب على قبائح الأفعال ، و يوالى أدبه على ذلك حتى يكف عنه ، كما تؤدب البهيمة على سوء الخلق حتى تراض .
و قد حرق علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ادعى له الإلهية ، و قد قتل عبد الملك بن مروان الحارث المتنبي و صلبه ، و فعل ذلك غير واحد من الخلفاء و الملوك بأشباههم .
و أجمع علماء و قتهم على صواب فعلهم ، و المخالف في ذلك من كفرهم كافر .
و أجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية و قاضي قضاتها أبو عمر المالكي على قتل الحلاج و صلبه ، لدعواه الإلهية ، و القول بالحلول ، و قوله : أن الحق ، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة ، و لم يقبلوا توبته .
و كذلك حكموا في ابن أبي الغراقيد ، و كان على نحو مذهب الحلاج بعد هذا أيام الراضي بالله ، و قاضي قضاة بغداد يومئذ أبو الحسين بن أبي عمر [ 278 ] المالكي .
و قال ابن عبد الحكم في المبسوط : من تنبأ قتل .
و قال أبو حنيفة و أصحابه : من حجد أن الله تعالى خالقه أو ربه ، أو قال : ليس لي رب ، فهو مرتد .
و قال ابن القاسم في كتاب ابن حبيب ، و محمد في العتيبة فيمن تنبأ يستتاب أسر ذلك أو أعلنه ، و هو كالمرتد .
و قال سحنون و غيره ، و قاله أشهب في يهودي تنبأ ، و ادعى أنه رسول إلينا إن كان معلناً بذلك استتيب ، فإن تاب و إل ا قتل .
و قال أبو محمد بن أبي زيد فيمن لعن بارئه ، و ادعى أن لسانه زل ، و إنما أراد لعن الشيطان يقتل بكفره ، و لا يقبل عذره .
و هذا على القول الآخر من أنه لا تقبل توبته .
و قال أبو الحسن القابسي في سكران ، قال : أنا الله ، أنا الله ، إن تاب أدب ، فإن عاد إلى مثل قوله طولب مطالبة الزنديق ، لأن هذا كفر المتلاعبين .



فصل
فيمن تكلم بسقط القول و سخف اللفظ ، ممن لم يضبط كلامه
و أما من تكلم من سقط القول و سخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه و أهمل لسانه بما يقتضي الاستخاف بعظمة ربه و جلالة مولاه ، أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته ، أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر و الاستخفاف ، و لا عامد للإلحاد ، فإن تكرر هذا منه ، وعرف به ، دل على تلاعبه بدينه ، و استخفافه بحرمة ربه ، و جهله بعظيم عزته و كبريائه ، و هذا كفر لا مرية فيه .
و كذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف و التنقص لربه .
و قد أفتى ابن حبيب و أصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عجب ، و كان خرج يوماً ، فأخذه المطر ، بدأ الخراز يرش جلوده .
و كان بعض الفقهاء بها : أبو زيد صاحب الثمانية ، و عبد الأعلى بن وهب ، و أبان بن عيسى ، قد توقفوا عن سفك دمه ، و أشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب .
و أفتى بمثله القاضي حينئذ موسى بن زياد ، فقال ابن حبيب : دمه في عنقي ، أيشتم رب عبدناه ، ثم لا ننتصر له ، إنا إذاً لعبيد سوء ، و ما نحن له بعابدين ، و بكى و رفع المجلس إلى الأمير بها عبد الرح من بن الحكم الأموي .
و كان عجب عمة هذا المطلوب من حظاياه ، و أعلم باختلاف الفقهاء ، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب و صاحبه ، و أمر بقتله ، فقتل و صلب بحضرة الفقهين ، و عزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة ، و وبخ بقية الفقهاء و سبهم .
و أما من صدرت عنه من ذلك الهنة الواحدة و الفلتة الشاردة ، ما لم تكن تنقصاً و إزراء فيعاقب عليها و يؤدب بقدر مقتضاها و شنعة معناها ، و صورة حال قائلها ، و شرح سببها و مقارنها .
و قد سئل ابن القاسم رحمه الله عن رجل نادى رجلاً باسمه ، فأجابه : لبيك ، اللهم لبيك .
قال : إن كان جاهلاً ، أو قاله على وجه سفه فلا شيء عليه .
قال : القاضي أبو الفضل : و شرح قوله أنه لا قتل عليه ، و الجاهل يزجر و يعلم ، و السفيه يؤدب ، و لو قالها على اعتقاد إنزاله منزلة ربه لكفر [ 279 ] .
هذا مقتضى قوله .
و قد أسرف كثير من سخفاء الشعراء و متهميهم في هذا الباب ، و استخفوا عظيم هذه الحرمة ، فأتوا من ذلك بما ننزه كتابنا و لساننا و أقلامنا عن ذكره ، و لولا أنا قصدنا نص مسائل حكيناها ما ذكرنا شيئاً مما يثقل ذكره علينا مما حكيناه في هذه الفصول .
فأما ما ورد في هذا من أهل الجهالة و أغاليط اللسان ، كقوله بعض الأعراب :
رب العباد ما لنا و مالكا قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث لا أبا لكا
في أشباه لهذا من كلام الجهال .
و من لم يقومه ثقاف تأديب الشريعة و العلم في هذا الباب ، فقل ما يصدر إلا من جاهل يجب تعليمه و زجره و الإغلاط له عن العودة إلى مثله .
قال أبو سليمان الخطابي : و هذا تهور من القول ، ، و الله منزه عن هذه الأمور .
و قد روينا عن بن عبد الله أنه قال : ليعظم أحدكم ربه أن يذكر اسمه في كل شيء حتى يقول : أخزي الله الكلب ، و فعل به كذا و كذا .
قال : و كان بعض من أدركنا من مشايخنا قل ما يذكر اسم الله تعالى إلا فيما يتصل بطاعته . و كان يقول للإنسان : جزيت خيراً . و قل ما يقول : جزاك الله خيراً ، إعظاماً لاسمه تعالى أن يمتهن في غيره قربة .
و حدثنا الثقة أن الإمام أبا بكر الشاشي كان يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم فيه تعالى و في ذكر صفاته ، إجلالاً لاسمه تعالى و يقول : هؤلاء يتمندلون بالله عز و جل .
و ينزل الكلام في هذا الباب تنزيله في باب ساب النبي صلى الله عليه و سلم على الوجوه التي فصلناها . و الله الموفق .
فصل
في حكم من سب سائر أنبياء الله تعالى و ملائكته و استخف بهم أو كذبهم
و حكم من سب سائر أنبياء الله تعالى و ملائكته ، و استخف بهم أو كذبهم فيما أتوا به ، أو أنكرهم و جحدهم ، و حكم نبينا صلى الله عليه و سلم على مساق ما قدمناه ، قال الله تعالى : إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا [ سورة النساء / 4 ، الآيتان : 150 ، 151 ] .
و قال تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 136 ] .
و قال : كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 285 ] .
قال مالك في كتاب ابن حبيب و محمد ، و قال ابن القاسم ، و ابن الماجشون و ابن عبد الحكم و أصبغ و سحنون فيمن شتم الأنبياء أو أحداً منهم أو تنقصه قتل و لم يستتب . و من سبهم من أهل الذمة قتل إلا أن يسلم .
و روى سحنون عن ابن القاسم : من سب الأنبياء من اليهود أو النصارى بغير الوجه الذي بي كفر ضرب عنقه إلا أن يسلم .
و قد تقدم الخلاف في هذا الأصل .
و قال القاضي بقرطبة سعيد ابن سليمان في بعض أجوبته : من سب الله و ملائكته قتل .
و قال سحنون : من شتم ملكاً من الملائكة فعليه القتل .
و في النوادر عن مالك فيمن قال : إن جبريل أخطأ بالوحي ، و إنما كان النبي علي بن أبي طالب استتيب ، فإن تاب و إلا قتل .
و نحوه عن سحنون [ 280 ] . و هذا قول الغرابية من الروافض ، سموا بذلك لقولهم : كان النبي صلى الله عليه و سلم أشبه بعلي من الغراب بالغراب .
و قال أبو حنيفة و أصحابه على أصلهم : من كذب بأحد من الأنبياء ، أو تنقص أحداً منهم ، أو برىء منه فهو مرتد .
و قال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر ، كأنه وجه مالك القضبان ، لو عرف أنه قصد ذم الملك قتل .
قال القاضي أبو الفضل : و هذا كله فيمن تكلم فيهم بما قلناه علىجملة الملائكة و النبيين ، أو على معين ممن حققنا كونه من الملائكة و النبيين ممن نص الله عليه في كتابه ،أو حققنا علمه بالخبر المتواتر ، و ال مشتهر المتفق عليه بالإجماع القاطع ، كجبريل ، و ميكائيل ، و مالك ، و خزنة الجنة ، و جهنم و الزبانيه ، و حملةالعرش المذكورين في القرآن من الملائكة ، و من سمي فيه من الأنبياء ، و كعزرائيل ، و إسرافيل ، و رضوان ، و الحفظة ، و منكر و نكير من الملائكة المتفق على قبول الخبر بهما ، فأما من لم تثبت الأخبار بتعينه ، و لا وقع الإجماع على كونه من الملائكة أو الأنبياء ، كهاروت و ماروت في الملائكة و الخضر ، و لقمان ، و ذي القرنين ، و مريم ، و آسية ، و خالد ابن سنان المذكور أنه نبي أهل الرس ، و زرادشت الذي يدعي المجوس المؤرخون نبوته ، فليس الحكم في سابهم و الكافر بهم كالحكم فيمن قدمناه إذ لم تثبت لهم تلك الحرمة ، و لكن يزجر من تنقصهم وآذاهم ، و يؤدب بقدر حال المقول فيهم ، لا سيما من عرفت صديقيته و فضله منهم ، و إن لم تثبت نبوته .
و أما إنكار نبوتهم أو كون الآخر من الملائكة فإن كان المتكلم في ذلك من أهل العلم فلا حرج لا ختلاف العلماء في ذلك ، و إن كان من عوام الناس زجر عن الخوض في مثل هذا ، فإن عاد أدب ، إذ ليس لهم الكلام في مثل هذا .
و قد كره السلف الكلام في مثل هذا مما ليس تحته عمل لأهل العل م ، فكيف للعامة .
فصل
في حكم من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء فيه ، أو سبهما
اعلم أن من استخف بالقرآن أو الصحف أو بشيء منه ، أو سبهما ،أو جحده ، أو حرفاً منه أو آية أو كذب به أو بشيء منه ،أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر ، أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك ، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع ، قال الله تعالى : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ سورة فصلت /41 ، الآية : 42 ] .
حدثنا الفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد رحمه الله ، حدثنا أبو علي ، حدثنا ابن عبد البر ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا ابن داسة ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : المراء في القرآن كفر ، تؤول بمعنى الشك و بمعنى الجدال و عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه و سلم من جحد آية من كتاب الله من المسلمين فقد حل ضرب عنقه و كذلك إن جحد التوراة و الإنجيل و كتب الله المنزلة ،أو كفر بها ، أو لعنها ، أو سبها ،أو استخف بها فهو كافر .
و قد [281 ] أجمع المس لمون أن القرآن المتلو في جمبع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين ، مما جمعه الدفتان من أول الحمد لله رب العالمين إلى آخر : قل أعوذ برب الناس أنه كلام الله و وحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم ، و أن جميع ما فيه حق ، و أن من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك ،أو بدله بحرف آخر مكانه ، أو زاد فيه حرفاً مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه ، و أجمع على انه ليس من القرآن عامداً لكل هذا أنه كافر .
و لهذا رأى مالك قتل من سب عائشة رضي الله عنها بالفرية ، لأنه خالف القرآن ، و من خالف القرآن قتل ، لأنه كذب بما فيه .
و قال ابن القاسم كان منا إن الله تعالى لم يكلم موسى تكليماً يقتل ، و قاله عبد الرحمن بن مهدي .
و قال محمد بن سحنون فيمن قال : المعوذتان ليستا من كتاب الله يضرب عتقه إلا أن يتوب .
و كذلك كل من كذب بحرف منه . قال : و كذلك إن شهد شاهد على من قال : إن الله لم يكلم موسى تكليماً ، و شهد آخر عليه أنه قال : إن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً ، لأنهما اجتمعا علىأنه كذب النبي صلى الله عليه و سلم .
و قال أبو عثمان بن الحداد : جميع من ينت حل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر .
و كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له ليس كما فرأت ، و يقول : أما أنا فأقرأ كذا ، فبلغ ذلك إبراهيم ، فقال : أراه سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله .
و قال أصبغ بن الفرج كان من كذب ببعض القرآن فقد كذب به كله ، و من كذب به فقد كفر به و من كفر به فقد كفر با الله .
و قد سئل القابسي عمن خاصم يهودياً فحلف له بالتوراة ، فقال الآخر لعن الله التوراة ، فشهد عليه بذلك شاهد ، ثم شهد آخر أنه سأله عن القضية فقال : إنما لعنت توراة اليهود ، فقال أبو الحسن : الشاهد الواحد لا يوجب القتل ، و الثاني علق الأمر بصفة تحتمل التأويل ، إذ لعله لا يرى اليهود متمسكين بشيء من عند الله لتبديلهم و تحريفهم .
و لو اتفق الشاهدان على لعن التوراة مجرداً لضاق التأويل .
و قد اتفق فقهاء بغداد على استتابه ابن شنبوذ المقريءأحد أئمة المقرئين المتصدرين بها مع ابن مجاهد ، لقراءته و إقرائه بشواذ من الحروف مما ليس في المصحف ، و عقدوا عليه بالرجوع عنه و التوبة عنه سجلا أشهد فيه بذلك على نفسه في مجلس الوزير أبي علي بن مقلة سنة ثلاث و عشرين و ثلاثمائة ، و ك ان فيمن أفتى عليه بذلك أبو بكر الأبهري و غيره .
و أفتى أبو محمد بن أبي زيد بالأدب فيمن قال لصبي : لعن الله معلمك و ما علمك . قال : أردت سوء الأدب ، و لم أرد القرآن .
قال أبو محمد : و أما من لعن المصحف فإنه يقتل .



فصل
في حكم ساب آل بيت النبي
و سب آل بيته و أزواجه و أصحابه صلى الله عليه و سلم و تنقصهم حرام ملعون فاعله .
حدثنا القاضي الشهيدأبو علي رحمه الله ، حدثنا أبو الحسين [ 282 ] الصيرفي و أبو الفضل العدل ، حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا ابن محبوب ، حدثنا الترمذي ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله ، الله في أصحابي ، قيل لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ، و من آذاهم فقد آذاني ، و من آذاني فقد آذى الله ، و من آذى الله يوشك أن يأخذه .
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تسبوا أصحابي ، فمن سبهم فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً .
و قال صلى الله عليه و سلم : لا تسبوا أصحابي ، فإنه يجيء قوم في آخر الزمان يسبون أصحابي فلا تصلوا عليهم ، و لا تصلوا معهم ، و لا تناكحوهم ، و لا تجالسوهم ، وإن مرضوا فلا تعودوهم .
وعنه صلى الله عليه و سلم : من سب أصحابي فاضربوه .
وقد أعلم النبي صلى الله عليه و سلم أن سبهم وأذاهم يؤذيه ، وأذى النبي صلى الله عليه و سلم حرام ، فقال : لا تؤذوني في أصحابي ، و من آذاهم فقد آذاني .
و قال : لا تؤذوني في عائشة .
و قال في فاطمة : بضعة مني يؤذيني ما آذاها .
و قد اختلف العلماء في هذا ، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع ؟ قال مالك رحمه الله : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم قتل ، ومن شتم أصحابه أدب .
و قال أيضاً : من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : أبا بكر ، أو عمر ، أو عثمان ، أو معاوية ، أو عمرو بن العاص ، فإن قال : كانوا على ضلال وكفر قتل ، و إن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً .
و قال ابن حبيب : من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان و البراءة منه أدب أدباً شديداً ، و من زاد إلى بعض أبي بكر و عمر فالعقوبة عليه أشد ، و يكرر ضربه ، و يطال سجنه حتى يموت ، و لا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه و سلم .
و قال سحنون : من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : علياً ، أو عثمان ، أو غيرهما يوجع ضربا ً .
وحكى أبو محمد بن أبي يزيد ، عن سحنون : من قال في أبي بكر و عمر و عثمان و علي : إنهم كانوا على ضلالة و كفر قتل . و من شتم غيرهم من الصحابة بمثل ذلك نكل النكال الشديد .
وروي عن مالك : من سب أبا بكر جلد ، و من سب عائشة قتل . قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن .
و قال ابن شعبان عنه : لأن الله يقول : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ، فمن عاد لمثله فقد كفر .
وحكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر بن الطيب قال : إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه ، كقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه ... في آي كثيرة .
و ذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم سبح نفسه في تبرئتها من السوء ، كما سبح نفسه في تبرئته من السوء .
[283 ] و هذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة .
و معنى هذا ، و الله أعلم ، أن الله ، لما عظم سبها كما عظم سبه ، و كن سبها سباً لنبيه ، و قرن سب نبيه و أذاه بأذاه تعالى ، و كان حكم مؤذيه تعالى القت ل كان مؤذي نبيه كذلك كما قدمناه .
و شتم رجل عائشة بالكوفة ، فقدم إلى موسى بن عيسى العباسي ، فقال : من حضر هذا ؟ فقال ابن أبي ليلى : أنا ، فجلده ثمانين ، وحلق رأسه ، وأسلمه إلى الحجامين .
[ وروي عن عمر بن الخطاب أنه نذر قطع لسان عبيد الله بن عمر ، إذ شتم المقداد بن الأسود ، فكلم في ذلك ، فقال : دعوني أقطع لسانه حتى لا يشتم أحد بعد أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ] .
وروى أبو ذر الهروي أن عمر بن الخطاب أتي بأعرابي يهجو الأنصار ، فقال : لولا أن له صحبة لكفيتموه .
قال مالك : من انتقص أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فليس له في هذا الفيء حق ، قد قسم الله الفيء في ثلاثة أنصاف ، فقال : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ سورة الحشر/ 59 ، الآية : 8 ] .
ثم قال : والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 9 ] .
و هؤلاء هم الأنصار .
ثم قال : والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 10 ] .
فمن تنقصهم فلا حق له في فيء المسلمين .
و في كتاب ابن شعبان : من قال في واحد منهم إنه ابن زانية وأمه مسلمة حد عند بعض أصحابنا حدين : حداً له ، و حداً لأمه ، و لا أجعله كقاذف الجماعة في كلمة لفضل هذا على غيره ، و لقوله صلى الله عليه و سلم : من سب أصحابي فاجلدوه ، قال : و من قذف أم أحدهم و هي كافرة حد حد الفرية ، لأنه سب له ، فإن كان أحد من ولد هذا الصحابي حياً قام بما يجب له ، و إلا فمن قام به من المسلمين كان على الإمام قبول قيامه ، قال : و ليس هذا كحقوق غير الصحابة لحرمة هؤلاء بنبيهم صلى الله عليه و سلم ، و لو سمعه الإمام ، و أشهد عليه ، كان ولي القيام به ، قال : و من سب غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ففيها قولان :
أحدهما : يقتل ، لأنه سب النبي صلى الله عليه و سلم بسب حليلته .
و الآخر : أنها كسائر الصحابة ، يجلد حد المفتري ، ، قال : و بالأول أقول .
و روى أبو مصعب ، عن مالك فيمن انتسب إلى بيت النبي صلى الله عليه و سلم يضرب ضرباً وجيعاً ، ويشهر ، ويحبس طويلاً حتى تظهر توبته ، لأنه استخفاف بحق الرسول صلى الله عليه و سلم .
و أفتى أبو المطرف الشعبي فقيه مالقة في رجل أنكر تلحيف امرأة بالليل ، و قال : لو كانت بنت أبي بكر الصديق ما حلفت إلا بالنهار ، و صوب قوله بعض المتسمين بالفقه ، فقال أبو المطرف : ذكر هذا لابنة أبي بكر في مثل هذا يوجب عليه الضرب الشديد و السجن الطويل .
و الفقيه الذي صوب قوله أحق باسم الفسق من اسم الفقه ، فيتقدم له في ذلك ، و يزجر ، و لا تقبل فتواه ولا شهادته ، و هي جرحة ثابتة فيه ، و يبغض في الله .
[ و قال أبو عمران في رجل قال : لو شهد علي أبو بكر الصديق : أنه إن كان في مثل هذا لا يجوز فيه الشاهد الوحد ، فلا شيء عليه ، و إن كان أراد غير هذا فيضرب ضرباً يبلغ به حد الموت ] ، و ذكروها رواية .
قال القاضي أبو الفضل : هنا انتهى القول بنا فيما حررناه [ 284 ] ، و انتجز الغرض الذي انتحيناه ، و استوفى الشرط الذي شرطناه ، مما أرجو أن يكون في كل قسم منه للمريد مقنع ، و في كل باب منهج إلى بغيته و منزع .
و قد سفرت فيه عن نكت تستغرب و تستبدع ، و كرعت في مشارب من التحقيق لم يورد لها قبل في أكثر التصانيف مشرع ، و أودعته غير ما فصل ، وددت لو وجدت من بسط قبلي الكلام فيه ، أو مقتدى يفيدنيه عن كتاب أو فيه ، لأكتفي بما أرويه عما أرويه .
و إلى الله تعالى جزيل الضراعة في المنة بقبول ما منه لوجهه ، و العفو عما تخلله من تزين و تصنع لغيره ، و أن يهب لنا ذلك بجميل كرمه و عفوه لما أو دعناه من شرف مصطفاه ، و أمين وحيه ، و أسهرنا به جفوننا لتتبع فضائله ، و أعملنا فيه خواطرنا من إبراز خصائصه و وسائله ، و يحمي أعراضنا عن ناره الموقدة لحمايتنا كريم عرضه ، و يجعلنا
ممن لا يذاد إذا ذيد المبدل عن حوضه ، و يجعله لنا و لمن تهمم باكتتابه و اكتسابه سبباً يصلنا بأسببابه ، و ذخيرة نجدها يوم تجد كل نفس ما عملت من خير و حضراً نحوز بها رضاه ، و جزيل ثوابه ، و يخصنا بخصيصي زمرة نبينا وجماعته ، و يحشرنا في الرعيل الأول و أهل الباب الأيمن من أهل شفاعته ، و نحمده تعالى على ما هدى إليه من جمعه و ألهم ، و فتح البصيرة لدرك حقائق ما أودعناه و فهم ، و نستعيذه جل اسمه من دعاء لا يسمع ، و علم لا ينفع ، و عمل لا يرفع ، فهم الجواد الذي لا يخيب من أمله ، ولا ينتصر من خذله ، و لا يرد دعوة القاصدين ، و لا يصلح عمل المفسدين ، و هو حسبنا و نعم الوكيل ، و صلاته على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلم تسليماً كثيراً . تم بحمد الله وتوفيقه كتاب الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضى عياض رضى الله عنه نسالكم الدعاء احبتى الكرام

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
كاتب الموضوع حسن الخليفه احمد مشاركات 51 المشاهدات 13458  مشاهدة صفحة طباعة الموضوع | أرسل هذا الموضوع إلى صديق | الاشتراك انشر الموضوع


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:56 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
::×:: هذا المُنتدى لا يمثل الموقع الرسمي للطريقة الختمية بل هُو تجمُّع فكري وثقافي لشباب الختمية::×::

تصميم: صبري طه