المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في حضرة الزعيم إسماعيل الأزهري - إشراقة مكي


Ya Mirghani
09-03-2012, 12:18 AM
في حضرة الزعيم اسماعيل الأزهري

السوداني - الجمعة 31 أُغسطس 2012م

ولأول مرة ماهي حكاية الشيخ الذي قال له "خلاص انتهت"
كتبت: اشراقة مكي
أبتاه سلاماً وتحية
من جرح الأحزان اللاعق سهد الليل قضية
من حلفا
من مرة
من نمولي في كسلا
في رمل العتمور الغربية
ولدو في ذل الاسر
في الاعطاف حديث الثورية
عاشوك حديثاً في الحدقات شيئاً اسطورياً
تاريخاً الاجرس مراراً... يوزع الآهات نشيداً ابديا
حين الموت تولى حطب القمة... وانتحرت في ليل الخرطوم الحرية
اوصيت بنيك بعهد... البيعة والتحرير
أن يبقوا للناس منارة... نخيلاً يسمو فوق الهامات
ما بقيت في النفس شرارة... ما اشتدت في الليل الظلمات
فالفجر سيأتي حتماً والباقي... لن يبقى ابداً مرتاحاً في ليل الشدة
"انه الزعيم القدوة والوالد الذي كان يقدرني كأبنه واتاحت لي الظروف عن قرب أن اجالسه واصافحه" هكذا وصفه لنا الاستاذ حسان سعد الدين. لقد كان الرئيس يصل الى مكتبه في السابعة صباحاً مبتسماً ومرحاً ومفعماً بالحيوية واحياناً يغادر مبكراً وفي احيان اخرى اذا اقتضت الضرورة يظل بمكتبه ولا يغادره الا بعد منتصف الليل.
* الرجل الشفاف
قبل خمسة ايام حلت الذكرى الـ 43 لوفاة الزعيم اسماعيل الازهري الذي مازال عند معاصريه خزانات من الذكريات لم تفتح بعد، وآخرون يبخلون بتلك اللحظات التي عاشوها معه، ولكن هنا الاستاذ حسان سعد الدين يفتح قلبه وعقله (للملف) ويحكي تفاصيل ايامه التي عاشها في كنف الرئيس وان اختيار الرئيس اسماعيل الازهري له للعمل في القصر الجمهوري كمسئول عن الصحافة والإعلام اثار لدى المقربين من الرئيس وبعض النافذين بالحزب الاتحادي الديمقراطي المخاوف باعتباره من الاخوان المسلمين، والكل كان يعرف هذه السمة عبر اللقاءات التي كان يجريها والكتابات التي يرسلها للصحف ولكن الرئيس ازهري هدأ من روعهم بقوله: نحن لا يهمنا ماهو حزبه ولا اي جهة ينتمي اليها بل يهمنا انه مواطن سوداني وكفؤ لهذه المهمة فمعيارنا في الاختيار( المواطنة والكفاءة لا الانتماء والولاء)، ويقول حسان إن الازهري كان شفافاً وواسع الصدر لدرجة لا يتخيلها احد لانه عندما زار مدينة جوبا اقام له التجار حفلاً بفندق جوبا وعندما جاء دوره لمخاطبتهم قاطعه احد السكارى من الشماليين قائلاً: ياخي سيبك من الكلام دا وورينا قصرك دا بنيتو كيف؟ وعندما اراد رجال الشرطة أن يخرجوه امرهم الازهري أن يتركوه حتى يرد عليه وقال له يا ابني سأجيبك، ومن بين جموع التجار نادى على عدد منهم بأسمائهم وكانوا ثلاثة وسألهم عن القدر الذي ساهموا به في بناء بيته فقال احدهم تبرعت بـ 300جنيه وقال الثاني تبرعت بالسيخ والاسمنت و مبلغ 200 جنيه وقال الثالث تبرعت بـ 250 جنيه وسألهم الازهري عن الوقت الذي تبرعوا فيه بهذه الاموال فقالوا عندما كنت حبيساً بسجن نواكشوط بعد قيام ثورة نوفمبر، عندها التفت الى الرجل وقال له يا ابني هؤلاء بعض من اخواني في جوبا ولي اخوان كثر في كل مناطق السودان تبرعوا واسهموا في بناء هذا البيت وانا محجور علي وحبيس والله يعلم أن يدي لم تمتد في يوم من الايام الى مليم حرام.فاذا الشعب يصفق اعجاباً برد الرئيس وعندها قال له الرجل "بالله عليك سامحنا".
* الرئيس المفلس
وكان الرئيس ازهري خلال زيارته لمدينة جوبا عام 1967 قد تبرع لنادي الملكية بجوبا بـ 20 جنيهاً سنوياً، فلما انقضى العام جاء وفد من نادي الملكية مكون من ثلاثة اشخاص الى مكتبي بالقصر الجمهوري طالبين مني تذكير الرئيس بوعده نسبة لصلتي القديمة بهم والوفاء بما التزم به، ويقول حسان إن وفد الملكية دفعوا اضعاف هذا المبلغ في ترحالهم من جوبا للخرطوم ولكن فيما يبدو أن القيمة المعنوية لهذا التبرع لاحد لها بالنسبة اليهم، وبالفعل ذهبت للرئيس وقلت له كل عام وانتم بخير فسأل مستغرباً فقلت له بمناسبة مرور عام على زيارة جوبا فقال ضاحكاً وما الذي فكرك بها قلت له وفد من نادي الملكية جاء ليذكركم بالوفاء بما وعدت عندها قال لي ادع لي احد سكرتيريته الذين ينتمون لحزبه فلما جاء طلب منه أن يدفع 20 جنيهاً لنادي الملكية فسأله الرجل ومن اين؟فقال من حسابنا في بنك مصر فقال الرجل نحن مدينون بمبلغ 5 جنيهات له واوقف البنك التعامل معنا حتى التسديد، فقال من حساب البنك التجاري فقال الحساب مقفول فقال الرئيس طيب ادفع انت وسوف ننظر كيف نسدد، عندها قال حسان اصبت بالاندهاش وقلت له إن هناك خبرا بجريدة (الميدان) يقول انكم اشتريتم عمارة بابا كوستا ودفعتم الثمن بالعملة الصعبة خارج السودان، فضحك الرئيس وقال كمان بالعملة الصعبة والله يا ابني لا املك الا مرتبي وبعض ما يجود به بعض الاخوان احياناً، وبالفعل وبعد قيام مايو بدأ الحاقدون والناقمون والذين كانوا يناوؤنه ويناوئهم بشراسة وبذلوا من جهود مضنية لإيجاد اي مخالفة مالية او اي تهمة يلصقونها به فلم يجدوا بل دهشوا وروعوا حينما نقبوا في بيته فوجدوا اثاثاته عادية وقديمة ولا ادنى علاقة لها بالبذخ والترف والبهرجة.
والزعيم رجل تميز بأنه كان مواصلاً لأهله وذويه ومعارفه ومحبيه ومناصريه لم يتخلف عن اي واجب عزاء او تلبية لأي دعوة سعيدة وكان يتعامل مع الجميع بحد سواء باسط الوجه باسم الثغر واسع الصدر شديد الصبر حلو اللسان وكان انسانا يحب الدعابة والفكاهة ويحرص على أن يشيد بأي شخص قدم اي نوع من المعروف، واذكر انه ذات مرة جاء رجل بسيط الى القصر وقال انه يريد أن يقابل الرئيس الازهري وعندما سألته السكرتيرة لماذا؟ قال لانه ذات يوم مر الرئيس بعربته وهو في طريقه الى زيارة ما ومر بمكان عمله النائي كغفير فوقفت له احتراماً وحيته فأخرج يده ورد علي، ثم فوجئت بعد يومين وقد بعث لي ببرقية على ترحيبي به، وكان بسيطاً ومتواضعاً لاقصى حد، ويقول حسان واذكر انني قدت وفداً اعلامياً من جنسيات عدة لمنزله لاجراء حوار معه عام 1968م ودهشوا كثيراً ولم يعرفوا انهم أمام باب بيت الرئيس الذي لا يقف امامه أحد من حرس او جند او بواب وعندما طرقت الباب فتحه بنفسه وهو يرتدي جلباباً وطاقية وينتعل حذاءً بسيطاً واصر أن يخدمنا بنفسه. وقد بعث احد الصحفيين وهو مصري من امريكا بقصيدة يبدي فيها اعجابه ودهشته من سلوك السودانيين وعلى رأسهم الرئيس والمحجوب وقال في قصيدته (هذا بيت رئيسكم... كالقدس بلا جند ولا اسوار).
* حكاية الشيخ
ويقول حسان هذه لمحات يسيرة من الكثير عن سلوك هذا الرجل، واذكر في آخر رحلة لي معه الى زائير كان معنا في الطائرة الرائد مأمون عوض ابوزيد وكان قد نقل حديثاً الى القصر الجمهوري ياوراً لرئيس الجمهورية وابدى الرئيس دهشته من مأمون الذي يتحاشى نظراته ويحرص أن يكون على مسافة منه ولا يقترب ولا يتودد منه كما يفعل عادة من يكونون في منصبه ولقد تعجبت انا شخصياً من تصرفه بأنه يبعد عن الناس حتى في الطائرة كان يجلس في ذيلها وذهبت اليه فلم يتحدث معي وعرفت فيما بعد من سكرتير الرئيس المغفور له الرفاعي انه عقب عودة الرئيس من زائير كان من ضمن مستقبليه والد مأمون وهو كان من اقطاب الحزب الديمقراطي فقال له الرئيس: بانه غير مبسوط من ابنه، وبعد يومين من وصوله حدث انقلاب مايو.
وهنا تلمع عينا الاستاذ حسان وهو يروي آخر يوم في حياة الزعيم الازهري بالقصر الجمهوري ويقول إن الزعيم قبل اربعة ايام من اعتقاله وصل كعادته مبكراً الا انه اخذ يلم كل اوراقه ومستنداته التي تخصه بالقصر الجمهوري ووضعها في حقيبتين صغيرتين، كما اخبرني فيما بعد نديم عدوي من كبار ضباط المراسم أن الرئيس بمجرد دخوله لمكتبه ذلك اليوم اخبره أن هناك شيخاً سوف يأتي عند منتصف النهار لمقابلته وعليه أن يدخله عليه فوراً، وقال عدوي بعد قليل اقبل الشيخ وعرفني بنفسه وطلب مقابلة الرئيس، وعندما ادخلته على الرئيس الذي اسرع الخطى اليه بمنتصف المكتب مرحباً به في حرارة وقبل أن اهم بالخروج القيت نظرة اليهما رأيت الشيخ بيديه يقول للرئيس خلاص مافي طريقة انتهت، وكان هذا آخر يوم للرئيس بالقصر الجمهوري، لانه بعد ذلك تم احتجاز الرئيس في بيته لبضعة ايام ثم نقل الى كوبر.
ويقول حسان سعد الدين إن آخر لقاء له بالرئيس عندما ذهب اليه في منزله، ولكن خطواته لم تستطع أن تدفعه اكثر للقاء الاخير لانه بمجرد أن اقبل نحوه كان الزعيم يقتاده ضابط صغير خرجا معاً من البوابة الصغيرة بالجهة الغربية واركبه عربة صغيرة، ويقول بالرغم من هرولتي خلف العربة وندائي عليه الا انه لم يلتفت، ويقول حسان حينها امتلأت عيناي بالدموع وحسيت بأن سكينة انغرست بقلبي وبعد يومين عدت الى جوبا لأواصل عملي فيها، بعد أن رفضت العمل في رئاسة وزارة الثقافة والاعلام وفي صحيفة مايو التي بدأت اصدارها وكان رئيس تحريرها ابراهيم عبد القيوم (الاحرار) وفي جوبا سمعت بوفاة الزعيم.